حقيقة موقف الإخوان من أزمة 1957
د.احمد زياد ابو غنيمة
22-01-2020 11:54 AM
شهادة للمرحوم زياد أبو غنيمة : حقيقة موقف الإخوان من الأزمة بين النظام والحكومة الحزبية عام 1957
شهدت الساحة الحزبية والسياسية الأردنية في سنوات الخمسينيات توترا شديدا في العلاقة بين الإخوان المسلمين وبين الأحزاب اليسارية والقومية، كان التوتر بين الإخوان وبين الأحزاب اليسارية والقومية يأخذ شكل مد وجزر، يصخب أحيانا ويخفت أحيانا، تارة يتوقف عند الخلافات في المواقف وتارة يصل إلى العراك بالأيدي، وزادت حِـدَّة التوتر بعد تشكيل الحكومة الحزبية في 29 / 10 / 1956 م برئاسة الأستاذ المحامي سليمان النابلسي وشارك فيها بسبعة وزراء الحزب الوطني الاشتراكي الذي كان له في مجلس النوَّاب 11 نائبا، وبوزير واحد لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان له 3 نوَّاب وبوزير للجبهة الوطنية (حليفة الحزب الشيوعي) التي كان لها 3 نوَّاب، ولم يشارك فيها الإخوان المسلمون الذين كان لهم 4 نوَّاب وحزب التحرير الذي كان له نائب واحد، كان تشكيل الحكومة الحزبية العقائدية برئاسة سليمان النابلسي منعطفاً وسابقة لم تشهدها الدولة الأردنية في عهدها الملكي، وتضاربت الآراء في دوافع الملك الراحل الحسين بن طلال للقبول بفكرة تشكيل حكومة حزبية عقائدية التي قوبل تشكيلها من قبل الأحزاب الوسطية الموالية ومن رجالات الحرس القديم بالدهشة المشوبة بالتخوف من أن يكون الملك قد استغنى عن دورها لحساب الأحزاب العقائدية، ورجّح البعض أن يكون الملك الراحل الحسين قد وافق على تشكيل الحكومة الحزبية العقائدية ليتناغم عن قناعة مع نبض الشعب الذي أفرز مجلس نواب أكثر من نصف أعضائه من أحزاب عقائدية معارضة، وذهب آخرون إلى القول بأن الملك الراحل الحسين أضطرَّ للموافقة على تشكيل الحكومة الحزبية العقائدية استرضاء للأحزاب العقائدية من جهة واسترضاء للنظام الناصري في مصر والنظام التقدمي في سوريا الذي كان لحزب البعث دور بارز فيه، ولكن الذي أرجِّحه أن الملك الراحل الحسين كان مقتنعاً فعلاً بفكرة تشكيل الحكومة الحزبية العقائدية ليتناغم مع نبض الشعب الأردني بضفتيه ولم يفعل ذلك اضطراراً لاسترضاء الأحزاب وحليفيها النظام المصري والسوري ولا خوفاً منهم.
بعد فترة قصيرة من تشكيل الحكومة الحزبية بدأت تظهر مؤشرات توحي بأن الحكومة الحزبية تتصرف وهي تعتبر نفسها الطرف الأقوى في المعادلة حيث كانت تحظى بتأييد نيابيٍ قوي يتمثل في نوابها ونواب الأحزاب القومية واليسارية الحليفة لها يضاف إليهم عدد من النواب المستقلين، كما كانت تحظى بدعم وتأييد ما كان يُسمى بتنظيم الضباط الأحرار في الجيش العربي الأردني الذي كان يضمُّ أكثر من جناح منها جناح الضباط الملتزمين بحزب البعث العربي الاشتراكي وجناح الضباط الملتزمين بحركة القوميين العرب مع الجناح الذي كان يتشكّل من ضباطٍ غير حزبيين يتعاطفون مع المد الوطني القومي الناصري الذي كان جمال عبد الناصر عنوانه الأول والأخير، يُضاف إلى ذلك كله ما كانت تحظى به الحكومة الحزبية العقائدية من تعاطفٍ شعبيٍ كان امتداداً وترجمة لتأثر الشارع الأردني في الضفتين وخاصة في الضفة الغربية وعلى الأخص في منطقة نابلس وتعاطفه مع جمال عبد الناصر وتياره الناصري، وإلى جانب ما كانت تشعر به الحكومة الحزبية العقائدية من تأييدٍ وتعاطفٍ داخلي جعلها تتصرف بعقلية الطرف الأقوى في مواجهة النظام الأردني فقد كانت تحظى بدعمٍِ لا محدودٍ من نظام جمال عبد الناصر في مصر ، والذين عايشوا تلك الفترة يذكرون كم كان المدُّ الناصري هادرا على الساحة الأردنية ، كما كانت تحظى بدعم النظام السوري الذي كان للبعثيين والشيوعيين نفوذ فيه وخاصة في المخابرات السورية التي كان يقودها عبد الحميد السرَّاج ، كما كانت تحظى بدعم من وسائل الإعلام المصرية والسورية ومن وسائل الإعلام اللبنانية الدائرة في فلك النظامين المصري والسوري ، وكانت إذاعة " صوت العرب " ومذيعها الملسن أحمد سعيد يُشكّلان وحدهما جبهةً مقلقة للنظام الأردني بما كانا يشنـَّـانه من تحريض ضد النظام الأردني لصالح الحكومة الحزبية العقائدية ، ومضت الأشهر الخمسة من عمر الحكومة الحزبية في توتر بين طرفي المعادلة ، النظام والإخوان من جهة والحكومة الحزبية من جهة أخرى ، ووجد الطرفان نفسيهما أمام مواجهةٍ وصلت إلى مرحلة كسر العظم ، ولم يلبث أن وصلت المواجهة إلى نقطة اللاعودة فكان لا بد لأحد الطرفين من حسم المواجهة لصالحه فاستنفرت الحكومة الحزبية جميع مناصريها وحلفائها في الداخل وفي الخارج واستنفر النظام كل مناصريه وإمكاناته وخاصة الحرس القديم من رجالات الدولة والقيادات التقليدية في الجيش ، ووجد الإخوان المسلمون أنفسهم في وضع لا يُحسدون عليه ، فقد كان موقفهم المبدئي في مواجهة الأحزاب التي يعتبرونها أحزابا علمانية لا إسلامية يضعهم في دائرة الاتهام أمام الجماهير بأنهم يقفون في وجه المد الناصري والوطني الذي تركب موجته تلك الأحزاب ، وإن فكروا بمهادنة الأحزاب إتقاءا للوقوع في دائرة الاتهام أمام الجماهير فإنهم بذلك يُسهِّـلون على الأحزاب الانتصار في معركة شد الحبل التي تخوضها مع النظام والتي إذا نجحت في السيطرة على الأمور في الأردن فمعنى ذلك أن الإخوان سيجدون أنفسهم يواجهون نفس المصير الذي كان يواجهه إخوانهم في مصر ، إعدامات واعتقالات ، وكتم أنفاس وتشريد ، هنالك لم يكن أمام الإخوان في الأردن عندما احتدمت المواجهة بين النظام والأحزاب إلا وعندما احتدمت المواجهة بين النظام والأحزاب ووصلت إلى ما قيل يومذاك إنه محاولة انقلاب تزعمها عدد من الضباط الحزبيين أو المتأثرين بالمد الناصري مناصٌ من أن يحسموا أمرهم ويتـَّـخذوا قرارهم على أن يكونوا في قارب النظام لأكثر من سبب ومن هذه الأسباب أن الإخوان وصلوا إلى قناعة أن الأحزاب اليسارية والقومية ستنتقم في حال حسمها المواجهة لصالحها من الإخوان بسبب مواقفهم وطروحاتهم المخالفة لهم وبسبب موقفهم السلبي من نظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان مُلهما وداعما لهذه الأحزاب ، ومن هذه الأسباب أن الإخوان كانوا على قناعة أنهم سيواجهون نفس المصير الذي واجهه الإخوان في مصر من إعدامات واعتقالات وملاحقات إذا حسم الحزبيون المواجهة لصالحهم ، وعزَّز هذه القناعة تصريحات بعض الحزبيين وإشاعات كثيرة عن وجود قوائم لدى الحزبيين بأسماء قيادات الإخوان التي سيتم إعدامها وسجنها ، ومن هذه الأسباب أن الإخوان كانوا يشعرون من تصريحات وتصرُّفات القيادات الحزبية أنهم مُستهدفون من تلك الأحزاب بقدر ما كان النظام نفسه مستهدفا منهم ، ومن هذه الأسباب أن الإخوان كانوا يشعرون بأن للملك الراحل الحسين بن طلال دينا ً في أعناقهم من حيث أنه فتح أبواب الأردن للعديد من القيادات الإخوانية المصرية التي لجأت إلى الأردن بعد أن أصدرت محاكم عبد الناصر بحقهم أحكاما بالإعدام والسجن ومن هؤلاء الدكتور سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف والأستاذ محمود الشريف والضابط عبد المنعم عبد الرؤوف الذي أجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش وأشرف بنفسه على نفيه إلى إيطاليا ، وقد أوعز الملك إلى الحكومة بمنح بعضهم الجنسية الأردنية ليصل بعضهم لاحقا إلى إشغال المنصب الوزاري كالأستاذ كامل الشريف والأستاذ محمود الشريف ، وسمح لهم بالعمل على الساحة الأردنية فأسَّـسوا المؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس وكانت صحيفة ( الكفاح الإسلامي ) الناطقة باسم الإخوان في الأردن تزخر بالهجوم على عبد الناصر كما كانت معظم بيانات " المكتب التنفيذي لقادة الإخوان في البلاد العربية " الذي كان سعيد رمضان وكامل الشريف يمثلان إخوان مصر فيه تصدر من عمَّـان ، لهذه الأسباب وجد الإخوان أنفسهم مُضطرِّين إلى الإصطفاف إلى جانب النظام باعتبار أنهم بهذا الإصطفاف كانوا يدافعون عن أنفسهم تماما ً مثلما كان النظام يُدافع عن نفسه ، ، وهكذا وجد الإخوان أنفسهم في خضمِّ الأحداث جنبا إلى جنب مع النظام ، ورغم نجاح الأحزاب في إجهاض أكثر من محاولة لتشكيل حكومة تخلف الحكومة الحزبية كان آخرها محاولة تشكيل حكومة الرئيس حسين فخري الخالدي ، ورغم نجاح الإضراب العام في 24 / 4 / 1957 م الذي شلَّ الحياة في معظم مدن الأردن وخاصة في الضفة الغربية والذي دعا إليه المؤتمر الوطني الذي عقدته الأحزاب في نابلس في 22 / 4 / 1957 م ، فقد تمكـَّـن النظام من توجيه الضربة القاضية للأحزاب عندما أصدر الملك الراحل الحسين بن طلال إرادة ملكية بتشكيل حكومة جديدة في 24 / 4 / 1957 م برئاسة الرئيس إبراهيم هاشم تضم عدداً من الحرس القديم من ذوي الخبرة في مواجهة الأزمات والإضطرابات منهم الوزير فلاح المدادحة الذي عُرف بصلابته كوزير للداخلية ، وكان أوَّلُ قرارٍ للحكومة الجديدة إعلان الأحكام العرفية وحلَّ الأحزاب السياسية باستثناء جماعة الإخوان المسلمين ، وعندما أدركت أحزاب المعارضة اليسارية والقومية أن الرياح لم تعد تهبُّ في صالحهم بل في صالح النظام ، بدأت موجة من الإستقالات من مجلس النواب تبعها لجوء سياسي إلى مصر أو إلى سوريا ، ومن الذين استقالوا من المجلس النواب عبد القادر طاش ( 16/10/1957م ) ، عبد الحليم النمر (16/10/1957م ) ، صالح المعشر الدبابنة (16/10/1957م ) ، حكمت المصري (16/10/1957م) ، وليد الشكعه (16/10/1957م ) ، نعيم عبد الهادي (16/10/1957م ) ، أما النواب الذين تم فصلهم فصلا من المجلس وفقدوا عضويتهم فيه فهم النواب : شفيق إرشيدات (17/12/1957م) ، د . يعقوب زيادين ( 3/12/1957م ) ، يوسف البندك (17/12/1957م ) ، سعيد العزة (17/12/1957م ) ، عبد الخالق يغمور ( 28/1/1958م ) ، الشيخ أحمد الداعور (13/5/1958م ) ، عبد الله الريماوي ( 3/12/1957م ) ، كمال ناصر (17/12/1657م ) .
بعد أن إنجلى غبار المواجهة عن نجاح النظام في حسمها لصالحه طفق الحزبيون يتـَّـهمون الإخوان بأنهم وقفوا إلى جانب النظام ودافعوا عنه ، وحقيقة الأمر أن النظام والإخوان وجدوا نفسيهما في خندق واحد في مواجهة خصم يستهدفهما كليهما ، فسعى النظام جاهدا ً ليحمي كيانه أمام المحاولة الحزبية المدعومة ناصريا للوثوب على السلطة على أنقاضه ، وسعى الإخوان من جهتهم جاهدين ليدفعوا عن أنفسهم خطرا كان سيكون ماحقا لو نجحت الأحزاب في حسم صراعها مع النظام لصالحها ، ولم تلبث حكومة الرئيس إبراهيم هاشم أن سيطرت على الأوضاع الداخلية ، فانتقلت المعارضة الحزبية إلى الخارج لتمارس نشاطاتها المعارضة من القاهرة ودمشق حيث كانت تحظى بدعم النظامين فيهما ، ولم يطل الأمر حتى نجحت سياسة الملك الراحل الحسين بن طلال ورئيس وزرائه وصفي التل في استقطاب رجالات المعارضة فعاد معظمهم بعد صدور عفو عام إلى الأردن ، وشغل بعضهم مناصب هامة في الحكومة وفي الدوائر الأمنية ، ولكن حالة التوتر بين الإخوان المسلمين وبين الأحزاب اليسارية والقومية عادت لتتـَّـقد من جديد ولكن بيغة جديدة عندما بدأ العمل الفدائي في البروز في منتصف الستينيات ، وكنت قد عدت لتوي من إسطنبول بعد أن أنهيت دراستي في جامعتها أحمل شهادة البكالوريوس في الكيمياء ، فعندما تشكـَّـلت الفصائل الفدائية الفلسطينية لم يمض وقت طويل حتى تبين أنها كانت في معظمها نسخا جديدة ومنقحة للأحزاب اليسارية والقومية ، الصاعقة لبعث سوريا ، والجبهة الشعبية للقوميين العرب ، والأنصار للشيوعيين ، وجبهة التحرير العربية لبعث العراق ، وكانت أدبيات هذه الفصائل تـُـكرِّر نفس ما كانت تزخر به أدبيات الأحزاب من تشهير بالإخوان وتخوين لهم ، وكانت أدبياتنا في المقابل تـُـكرِّر ما كنا نقوله عن الأحزاب من اتهام لها بالعلمانية وبالعداء للإسلام وغير ذلك من التهم المتبادلة .
* المصدر: الكتاب الموسوعي " اربدي يتذكر" تأليف زياد ابو غنيمة رحمه الله