يحدد الذكاء كمفهوم موقع لكل فرد ومكانته في حياته، ويعتبر هذا المفهوم قديماً جداً ويشكل الذكاء أبرز سمات الفكر.
ذكاء الفرد من عدمه لم يكن يوماً مرتبطاً بالتعليق على امكانياته العقلية فحسب، بل لطالما اقترن بما يتاح له القيام به، اي ان الذكاء، بكلام آخر، مسألة سياسية وتبدو منطقية لهذا النوع من التصنيف أحياناً لجهة الحاجة الى أطباء ومهندسين وقادة غير أغبياء، لكنها تحمل جانباً مظلماً في الوقت نفسه، اذ يحدد الذكاء أو غيابه المفترض ما يمكن للشخص القيام به، أما ماذا يمكن للآخرين فعله به، وتاريخ الغرب شاهد على استعمار واستعباد وقتل كل الذين اعتبروا أقل ذكاء نتيجة ذلك الحكم.
الذكاء قصة قديمة، لكن حبكته اكتسبت منحى مثيراً للاهتمام في القرن الواحد والعشرين، مع ارتفاع موجة الذكاء الاصطناعي واختراع الروبوتات، الذي يثير مشاعر الرعب والاثارة في اوساط المثقفين سيما في ظل جزم الخبراء بتسارع وتيرة هذا التطور.
لا بد لنا بغية فهم سبب الاهتمام بالذكاء وموضع الخوف منه ان نفقه موضوعه كمفهوم سياسي وان نستوعب على وجه التحديد تاريخه العريق كمسوغ للسيطرة.
لم يشتهر تعبير الذكاء قط في اوساط الفلاسفة الانجليز، كما لا توجد ترجمة له في الالمانية او اللغة الاغريقية القديمة ،لكن لا يعني ان تلك الشعوب لم تهتم به، بل كانت مهووسة به، أو بالاحرى بجزئيته الملتصقة بالمنطق والعقلانية.
بدأت قصة الذكاء مع افلاطون الذي كان للفكر مرتبة مرموقة في كتاباته، وتفتقت عقلية هذا الآتي من عالم غارق بالأساطير والصوفية عن أمر جديد يقول ان الحقيقة المرتبطة بالواقع يمكن ان تقوم على اساس المنطق.
لقد استخلص في كتاب (الجمهورية) بأن الحاكم المثالي هو الملك الفيلسوف، وتوصل لمبدأ ضرورة حكم الأذكى أو الأستحقاقراطية الفكرية، واعتبرت تلك الفكرة ثورية آنذاك، سيما في أثينا التي كانت لها تجربة مع الديموقراطية غير القائمة بالضرورة على الذكاء بقدر احتكامها لنظام الارستقراطيات، توارث النخب الثيوقراطيات (حكم الكهنة أو الطغاة).
تناهت فكرة أفلاطون الجديدة لأسماع مثقفين متحمسين، أبرزهم تلميذه أرسطو، الذي نادى بمفهوم أولوية العقل في كتاب (السياسة) وصفات الحاكم والمحكوم.
أما الفلسفة الغربية بقناعها الحديث فيقال انها بدأت مع المؤمن العتيق بمذعب الثنائية (رينيه ديكارت) الذي لم يلحظ حتى تسلسلية الذكاء المتناقص في أوساط الحيوانات، واعتبر ان الفكر مسألة بشرية محضة، مستمدا هذا المبدأ من زهاء الف سنة من اللاهوت المسيحي الذي ارتقى بالذكاء على اعتباره احد خصائص الروح وشرارة القداسة المدخرة فقط لمن هم محظوظون، واعتبرت الطبيعة برأي ديكارت خالية من أي قيمة جوهرية، مما يشرع قمع الأجناس الأخرى بصورة غير مترافقة مع الشعور بالذنب، وواصلت فكرة الذكاء المحدد للبشرية شق طريقها حتى عصر التنوير فاعتنقها بحماسة الفيلسوف الاخلاقي الاكثر تأثيراً منذ عهد قدامى الفلاسفة (امانويل كانط) الذي واءم بين العقل والاخلاق وصنف الكائنات العاقلة المسماة بشراً بأنها غايات قائمة بذاتها، وشرع لنا ان نفعل ما نشاء دون تعقل ،في حين كانت جدلية كانط أكثر تعقيدا حيال الكائن العاقل اي الذكي بمفهوم اليوم، لكنها أفضت لخلاصة أرسطو عينها القائلة بوجود أسياد وعبيد بصورة بديهية وان الذكاء هو ما يميز بينهما.
لكن هل كل هذا حقيقة أم ما بعد الحقيقة؟ حيث يعتبر ما بعد الحقيقة امتداداً للحقيقة نفسها في شكلها اللامتناهي غير المكتشف فهي بمثابة الكل والظاهر منها هو الجزء وفقاً لعملية الادراك التي قد تحتمل الصدق او الكذب.
أما الجزء غير الصادق والذي يخلق هذه المنطقة الرمادية فيمكن ارجاعه الى ما احدثه التواصل تكنولوجيا المعلومات فيها من نقلة كبيرة بين البشر في نقل الاخبار والاحداث، سواء كانت صادقة أو كاذبة وهكذا بات التفاعل المعلوماتي يتم في جزء من الثانية على سطح الكرة الارضية، فحدت ما يشبه الصدمة لبشر كانت تقدم لهم المعلومات في شكل منقحئ فجأة أصبح الكل عراة ومنكشفين بلا معايير حاكمة لما يتلقون.
لكن هل كل ما يحدث على سطح المعمورة يعكس في شكل ما الحقيقة أم ما يناقضها؟ وتأتي أهمية ذلك من تطور تطبيقات الانترنت مما جعل الجميع مندمجين مع واقع افتراضي يقبل الصدق والكذب، والخطورة تكمن في ما احدثته هذه الثورة التكنولوجية من تحويل الحقيقة الى نقيضها غير تسهيل النسخ دون محاسب أورقيب.
فالانترنت على رغم الفوائد والعوالم التي فتحها سمح لسارقي الحقائق بأن يكون لهم وجود وسط الحقيقة، فاذا أخذنا حقلاً واحداً من حقول أخرى كثيرة، وهو المرتبط بالعمل الصحافي والبحثي، نجد ان عالم ما بعد الحقيقة أصبح متجسداً في السرقات بالنسخ وتوفيق الفقرات والعبارات من نصوص الآخرين، فتضيع حقوق أصحاب الافكار. ويمكن القياس على تلك الظاهرة في تطبيقات مختلفة عندما تتأثر قضية في وسائل التواصل الاجتماعي ويظهر الاستقطاب بين فريقين أوعبر تركيز كل طرف على ما يعتقده حتى لو تعامل مع الاكاذيب كأنها حقائق. واذا كانت تطبيقات الانترنت المجال الخصب لنشر وتفشي ظاهرة ما بعد الحقيقة، فان الاعلام بشقيه الصحافي والفضائي أخذ جانباً من الصورة لقتله الموضوعية بالتركيز على صناعة أخبار ليس لها علاقة بالواقع وابراز ما لايجب ابرازه واهمال ما يجب ان يكون بالصورة.
هنا تأتي الحقيقة والموضوعية في آخرالأجندات وتسبقها مصالح واهداف قد تكون سياسية او مرتبطة بالتمويل.
مصطلح ما بعد الحقيقة لم يخرج من فراغ في أوساط الرأي العام الغربي بعدما شهدنا على مدارالعقود الماضية كذب السياسة نفسها مثل غزو العراق في عام 2003 ليس ببعيد، وتبريره بامتلاك هذا البلد اسلحة دمار شامل أو بارتباطه بتنظيم القاعدة، حيث ثبت كذبه وأصبح بمثابة الفضيحة .
هذه الحرب كان هدفها بالأساس البترول والغاز من قبل المحافظين الجدد.
الحقيقة هي الحقيقة والاكاذيب هي الاكاذيب، حتى اذا اصبحت الرمادية هي اللغة السائدة في الفضاء الالكتروني والاعلام وحتى في السياسة، لكن فجر السياسة الغربية بدأ باستعمال الذكاء لكل ما يستطيعون عمله من حقيقة، أو ما بعد الحقيقة.
dr.sami.alrashid@gmail.com