ما الذي حصل في لبنان اقتصاديا؟
د. ابراهيم سيف
20-01-2020 12:08 AM
هناك تفسيران لما يجري في لبنان، الأول سياسي ويتبنى نظرية مفادها ان اتباع النظام الريعي وتخلي الحلفاء التقليديين عن لبنان في أزمته، تزامن مع ظرف إقليمي أدى الى تردي الاوضاع المالية والاقتصادية بما يمهد لمرحلة جديدة. ولن نستغرق في هذا التحليل لأنه يحمل الظروف الخارجية مسؤولية الحاصل والازمة التي تتوالى فصولها.
التفسير الثاني والذي اعتقد انه اقرب الى الصواب، ويحمل بعض الجوانب الفنية، يشير الى أن الأزمة المالية في لبنان بدأت عمليا منذ العام 2011-2012، حينما بدا ميزان المدفوعات في لبنان يحقق عجوزات متتالية، وميزان المدفوعات هو الحساب الختامي لأي دولة والذي يظهر الفرق ما بين ما يدخل بلد ما من عملات أجنبية وبين ما يخرج من ذلك البلد، وهذا العجز ينعكس في العادة على الرصيد الصافي للبنك المركزي او ما يعرف بالاحتياطي (مصرف لبنان في حالتنا)، وحينما يستمر العجز يبدأ رصيد البنك المركزي بالنضوب، وتصبح كمية النقد بالعملات الصعبة المتاحة اقل مما يؤدي الى اختلالات وانعكاسات على سعر الصرف.
وعندما يكون سعر العملة مثبتا مقابل الدولار كما كان الحال عليه في لبنان، يصبح لزاما على البنك المركزي توفير العملات الصعبة لضمان تسيير المدفوعات الخارجية لتمويل المستوردات أو أي مدفوعات أخرى بالعملة الأجنبية، و لسد تلك الفجوة المتنامية في الطلب على العملات الأجنبية لجأ مصرف لبنان المركزي الى ما عرف حينا بإجراءات “الهندسة المالية” التي تقوم على رفع أسعار الفوائد على الودائع بالعملات الأجنبية ولا سيما الدولار بهامش كبير عن الليرة اللبنانية، وهو بالمناسبة عكس ما هو متبع في الأردن، والهدف من ذلك هو اجتذاب الودائع وبخاصة من خارج لبنان بالعملات الأجنبية بأسعار فوائد لا نظير لها في العالم، وبالفعل نجحت المصارف اللبنانية باجتذاب كميات كبيرة من الودائع بالعملات الأجنبية عوضت العجز المتحقق في ميزان المدفوعات.
فالبنوك اللبنانية التجارية الكبيرة وذات السمعة المرموقة بدأت الترويج لبرامج الايداع بأسعار فائدة مرتفعة على الدولار، وكانت بدورها تقوم بإعادة إيداع تلك المبالغ في المصرف المركزي اللبناني الذي بات يظهر رصيده من العملات الأجنبية مريحا وبات قادرا على الوفاء بالتزاماته تجاه الآخرين.
إلا ان إجراءات الهندسة المالية ما كان لها ان تدوم، فباتت خدمة الديون المترتبة على المصرف المركزي مرتفعة وتستهلك من رصيده المتواضع، وباتت كلفة الاقتراض مرتفعة لدرجة كبحت كافة اشكال الاستثمار، وتراجعت قدرة المصارف عاجزة عن اجتذاب المزيد من الودائع، بل تنبه بعض المودعين الى ان الوضع المالي غير مستدام فبدأ بتحويل الودائع الى خارج لبنان، وفي دولة لا يوجد فيها قيود على تحويلات رأس المال وسعر صرف ثابت، بدأت معالم الأزمة تطل برأسها دون وجود بدائل، فالحكومة كانت أيضا تصدر سندات بضمانة البنك المركزي، وتراكمت الديون وانحسرت قدرة البنك المركزي على الوفاء بالالتزامات، كل هذا رافقه ترد غير مسبوق في سوية الخدمات العامة ومرافق البنية التحتية لا سيما الكهرباء. كل هذا دفع عددا كبيرا من اللبنانيين الى الشوارع للاحتجاج لأن الاجراءات أجلت اندلاع الازمة، وحاليا بات هناك شح في توفر العملات الأجنبية، وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية الى النصف تقريبا، ولا يوجد في الأفق ما يشير الى أن الأزمة ستجد طريقا قريبا الى الحل.
من يقارن الأردن بلبنان سيجد ان الأردن اختط طريقا مختلفا تماما، فلا إجراءات للهندسة المالية من قبل البنك المركزي والودائع بمعظمها بالدينار، ورصيد العملات الأجنبية يشهد تحسنا، والأداء الاقتصادي متباطئ لكنه ليس سلبيا كما حصل في لبنان في العامين الأخيرين.
الغد