أتذكر اسم جميلة بوحيرد في مكان ما من كتاب التاريخ المدرسي. أتذكر أيضا أن اسمها مرّ سريعا ً بحجم أصغر بكثير من تاريخها الفدائي ضمن الثورة الجزائرية. جميلة كانت مصممة أزياء تتمتع بأنوثة فارهة، صبية "سمراء زان بها الجمال لواءه"، وكانت أيضا فارسة تعشق الخيل لكنها قررت أن تقاوم المستعمر الفرنسي وتنضم للثوار في الجزائر إلى أن ألقي القبض عليها ، ويقال أنها تعرضت للتعذيب بأسلاك كهربائية لثلاثة أيام متواصلة كي تعترف بأسماء رفقائها الثوار لكنها لم ترضخ أبدا ً.
جميلة بطلة استثنائية لا يعرف الجيل الجديد اسمها ولم يعد يتردد عنها شيئ الآن إلا ما ترويه عنها بين مقالة وأخرى الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي. قبل أسبوع عاد اسم جميلة بوحيرد للظهور حين خرجت عن صمتها الذي اختارته رفيقا ً لسنين طوال وتناقلت الأخبار عنوانا ً صادماً يقول: جميلة بوحيرد تستغيث بالشعب الجزائري لدفع فواتيرها وللعلاج في الخارج.
الأقلام العربية التي انبرت للتعليق اعتبرت الأمر فضيحة وأن المناضلة التي اختارت العزلة الارادية ولم تسع يوما ً للسلطة والشهرة عليها أن تواصل ظروف القهر وتحتمل المرض والتهميش وتنتظر الموت ليتذكرها الإعلام ويحتفي الأحياء بذكراها.
ليس المقصد معاناة جميلة بوحيرد تخصيصا ً، بقدر ما يبدو الأمر فاضحا ً ومؤسفا ً أن ندين بالوفاء متأخرين، متأخرين جداً، لمن أعطوا الكثير من أعمارهم، بعد أن يقتطفهم من بيننا الموت ولا نقف في حياتهم على احتياجاتهم وعلى صعوبة وضعهم من باب العرفان أو وفاء الدين ولو بالقليل.
قضية المناضلة الجزائرية لا تختلف بأي حال مع آخرين عاشوا عزلة وتهميشاً بعد أن قدموا زهرة شبابهم كي يضيؤوا شمعة لغيرهم، هذا التنكيل لا يختلف في الأمر ذاته مع مفكرين ومثقفين ومبدعين يعيشون بيننا نتذكرهم فقط من باب رفع العتب ونزورهم في عثرتهم لنتصدر صفحة الأخبار ، وما يزيد البلية أن تصدح الحناجر بعد موتهم، والوقوف فوق قبورهم لتحكي فيهم القصائد والمآثر وتعدد الخصال.
إذا كانت جميلة بو حيرد شجاعة بما يكفي لتعرية الوضعية الحرجة التي يعيشها المهمشون بعد أن قدموا لأوطانهم اسهامات جليلة ، فهناك كثيرين وكثيرات تمثلهم جميلة في الوطن العربي ضحّوا وأفنوا أعمارهم فداء وخدمة لقضية ما، لكنهم شعروا بجرح اهمالهم بعد انتهاء دورهم، وتوجعوا بألم النسيان والجحود بعد أن عاكستهم ظروف الحياة، فظلوا في الظلّ يعيشون بكرامة الصمت أسوأ الأوضاع الصحية والمادية إلى وقت وفاتهم دون أن تلتفت الدولة لعوزهم.
ليس هيّنا ً لمن حمل قضية تحرير الوطن من الاستعمار وتعذب في المعتقلات كجميلة بوحيرد، أن يخرج بعد هدأة السنين ويحدث ضجة صاخبة لأجل تسديد فواتير البقال . انها صرخة مشروعة لرفض احتفاء رديء يجيء بعد الأوان.
الراي.