لا يمكن لمن تابع خطابات النواب خلال مناقشات الموازنة الاسبوع الماضي ان يخلص الى انهم على وفاق مع الحكومة او يؤيدون سياساتها واسلوب إدارتها للشأن العام. بلا تردد او مواربة استخدم غالبية النواب لغة مشبعة بالنقد ومليئة بالشكوى والتشكيك في كل ما تقوم به الحكومة. مع كل ذلك حازت الموازنة على ثقة النواب وتوجه العشرات منهم نحو المقاعد المخصصة للحكومة ليقبلوا وجنات الرئيس ويهنئوا الحكومة على فوزها بهذه الثقة الثمينة. لا احد يملك تفسيرا لهذا الفصام بين ما يقوله النواب خلف المايكروفونات وما يقومون به عند عد الاصوات.
التفسيرات المحتملة لما جرى ويجري تحت القبة منذ سنوات تقع تحت أحد ثلاثة احتمالات يتعلق الاول بالانتهازية حيث تكون المبادئ ضعيفة والاخلاق نفعية يملك فيها الافراد استعدادا كبيرا للتحول من موقف الى آخر تبعا للمصالح وبمعزل عن اي قيم او مرجعيات اخلاقية. أما الاحتمال الثاني فيرتبط بالمسايرة السياسية حيث يسعى الفرد الى مسايرة الجميع ففي الخطاب الذي يوجه للناس يختار الخطباء لغة نقدية لإرضاء الشارع ويعتبر صاحبها ان القول يعادل الفعل، لذا سرعان ما يتوجه نحو من قام بنقده ليعوضه عن النقد بالتأييد او الدعم وبذلك فهو يرضي كافة الاطراف. اما التفسير الثالث فهو مرتبط بالنزعة نحو المزاوجة بين شخصية الانسان الثائر المنحاز الى التغيير والآخر المحافظ المتمسك بكل ما هو موجود ومتعلق بالأوضاع الراهنة.
في الكلمات التي ألقاها النواب أثيرت عشرات الاسئلة حول مسوغات وتفاصيل استيراد الغاز الاسرائيلي ومبررات ارتفاع المديونية واختفاء أي أثر لسياسة ربط الاحزمة والاعتماد على الذات. من بين النواب هناك من عاد للسؤال عن آلية تسعير الوقود وحزم التشجيع والتحفيز واجراءات الدمج واعادة الهيكلة والزيادات ومصير المساعدات التي تأتي للبلاد ولا تظهر في أرقام الموازنة.
الخطابات التي استعان اصحابها بالله على الحكومة واظهروا رفضهم لما يجري من تجاهل لمطالب الناس وممثليهم واستنكر فيها الخطباء استفحال الشللية وغياب الشفافية والتستر على الفساد والتباطؤ في التصدي للتهديدات التي تواجه البلاد والتراجع عن تنفيذ السياسات والافكار التي جرى التبشير بها عند تشكيل الحكومة.
بعيدا عن الارقام والمخصصات والموارد وبعيدا عن الموافقة او الرفض كانت الايام القليلة الماضية مناسبة استثمرها النواب لإعادة تقديم انفسهم لقواعدهم والاعلام والحكومة والمرجعيات المؤثرة على مستقبلهم السياسي. العشرات من النواب أطلوا على الشعب عبر خطابات أعدوها بعناية ليقولوا كل ما يريدون او ما لم يتح لهم التعبير عنه من مواقف سياسية وفكرية جريئة. لم يتردد البعض في طرح الآراء النقدية او إظهار مهاراتهم في المسايرة والتقرب من صناع القرار والدوائر المؤثرة.
بصورة جديدة ومختلفة بدت سياسات الحكومة وبرامجها وموازنتها على مشرحة النواب. فقد اطنب البعض في نقد الرئيس وفريقه وأمعنوا في توصيف تركيبة الحكومة واسلوب تشكيلها ومستوى كفاءتها وقضايا الفساد وتردي الخدمات ومستوى العدالة الاجتماعية وضعف التنسيق بين الاجهزة المختلفة وانعكاس كل ذلك على العلاقة بين الدولة والمجتمع .
حديث البعض بدا أقرب ما يكون الى الأداء الدرامي او التفريغ الوجداني فقد قالوا ما يعبر عن همومهم وأوجاعهم وتطلعاتهم دون الالتفات الى مدى ارتباطه بالموازنة. في المجلس الثامن عشر وفي كلمات النواب وتنوع الطرح ما يكفي لبناء لوحة سيريالية يمكن قراءتها بعشرات الطرق وفهمها بالشكل الذي يحلو لك..
في نقاشات 2020 أدهشني الهامش العريض الذي منح لبعض النواب ليعيدوا تأهيل أنفسهم للانتخابات القادمة فقد تحول المؤيد معارضا بالتزامن مع إعلان ثلاثة من كبار اللاعبين في المجلس عن نيتهم عدم الترشح للمجلس التاسع عشر.
الغد