اتفاقية الغاز "سم" يتجرعه الأردنيون
نضال منصور
16-01-2020 06:01 PM
لم يكن أول أيام عام 2020 عاديا في تاريخ الأردن، ولم يره الأردنيون تاريخا للاحتفاء والفرح، وإنما اعتبروه "يوما أسودا" دشن فيه خط الغاز الإسرائيلي لبلادهم.
الموقف الأردني الشعبي من اتفاقية الغاز ليس طارئا، فمنذ أن وقعت الاتفاقية عام 2016 وحتى مباشرة ضخ الغاز، والشعار المرفوع الذي أصبح على ألسنة الناس "غاز العدو احتلال".
منذ توقيع الاتفاقية واصل الأردنيون جهودهم لإسقاط اتفاقية الغاز، وكشف تفاصيلها التي ظلت طي الكتمان ولم تُنشر رسميا، ورغم أن الحكومات المتعاقبة تنصلت من مسؤوليتها عن الاتفاقية، واعتبرتها اتفاقية موقعة مع شركة الكهرباء الوطنية ـ مملوكة بالكامل للحكومة الأردنية ـ؛ إلا أنها في ذات الوقت لم ترضخ لأصوات الشارع بمُطالبة شركة الكهرباء بفسخها.
بدأ الضخ التجريبي للغاز الإسرائيلي من حقل "ليفياثان" البحري الذي يعتبره نشطاء حملة "غاز العدو احتلال" مسروقا من فلسطين وهو الأمر الذي زاد الاحتقان الداخلي في الأردن، وتسبب في تعالي الأصوات المُنددة بموقف حكومة الدكتور عمر الرزاز، أول المواقف كان لحزب جبهة العمل الإسلامي الذي طالب ببيان له "بمقاضاة الحكومة ومحاكمتها بتهمة الخيانة الوطنية".
مشروع قانون منع استيراد الغاز من إسرائيل "حقل ألغام مُفخخ" في طريق الحكومة
البيان شديد اللهجة اعتبر "بدء تدشين الغاز الإسرائيلي للأردن جريمة نكراء، ورهنا للسيادة الأردنية وقطاع الطاقة بيد الاحتلال".
البرلمان الأردني في آخر دورة له قرر التصعيد مع الحكومة والدخول بمعركة "كسر عظم" حتى وإن كانت لمغازلة الشارع واستقطاب الشعبية فقط، ولهذا فإن 65 نائبا تقدموا بمقترح مشروع قانون يمنع على الحكومة استيراد الغاز من إسرائيل.
مشروع القانون المُثير للجدل سيبدأ نقاشه تحت القبة يوم الأحد المُقبل، وهذا "حقل ألغام مفخخ" في طريق الحكومة بغض النظر عن مصيره، وكيف ستتعامل الحكومة معه، ومتى ستُعيده للنقاش تحت القبة ـ وهي المسؤولة دستوريا عن إعداد القوانين حتى لو طلبتها الأغلبية البرلمانية.
لجوء البرلمان لتقديم مشرع قانون لمنع الحكومة من استيراد الغاز من إسرائيل جاء بعد أن فشل بالضغط على الحكومة لعرض الاتفاقية عليه للمصادقة، فالمحكمة الدستورية أقرت في شهر سبتمبر من العام الماضي أن الاتفاقية لا تتطلب موافقة مجلس الأمة؛ لأنها مُبرمة من شركة الكهرباء الوطنية وليس من الحكومة.
خيار تشريع قانون يمنع استيراد الغاز قد لا يكون أكثر "إحراجا" للحكومة بعد أن فقد البرلمان قدرته على حجب الثقة عن الحكومة سلاحه الأقوى لإجبارها على الامتثال لإرادته.
لكن هذا التشريع يُثير ملاحظات قانونية، فالمحامي ليث نصراوين يرى أن مثل هذا القانون لو أُقر يُشكل مخالفة صريحة لبنود معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل، وتحديدا البند (7) منها وينص "تلتزم الدولتين بتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، والعمل على إنهاء المقاطعة الاقتصادية وصولا إلى علاقات اقتصادية طبيعية على كافة المستويات".
لم تتجاوب الحكومة مع كلام رئيس مجلس النواب عاطف الطراونة حين قال "اتفاقية الغاز مع العدو المُحتل مرفوضة شعبيا وبرلمانيا، وعلى الحكومة إلغاؤها"، وفي نفس الوقت لم تُقدم الحكومة الاتفاقية باعتبارها "ابنا شرعيا" لها، ولهذا لم يتردد وزير الدولة لشؤون الإعلام أمجد العضايلة وعلى هامش عشاء خاص من القول "لو عُرضت اتفاقية الغاز على الحكومة الآن؛ لتريثت وفكرت مليون مرة قبل توقيعها".
كلام الوزير العضايلة يُفهم في سياقه السياسي أكثر من أبعاده الاقتصادية والاستراتيجية لأمن الطاقة، فسريان الاتفاقية وبدء ضخ الغاز يأتي في الوقت الذي وصلت فيه العلاقات الأردنية الإسرائيلية إلى الحضيض كما وصفتها الكاتبة الإسرائيلية سميدار بيري، وإلى "أسوأ حالاتها" كما عبر عنها جلالة الملك عبد الله الثاني، وحتى آخر لحظة فإن الأردنيين كانوا يعتقدون أن الحكومة ستتراجع عن الاتفاقية وستفسخها، فالأزمة تتصاعد بين البلدين، والأردن رفض تجديد عقد تأجير أراضي الباقورة والغُمر، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يُعلن ضم غور الأردن ويحتفي بإعلان الإدارة الأميركية شرعنة المستوطنات، وكُتّاب في الصحافة الإسرائيلية يُروجون لأهمية الإطاحة بالنظام الهاشمي واستهداف الملك لتسهيل إقامة الوطن البديل للفلسطينيين في الأردن وإنجاز "الترانسفير".
على وقع هذه الحرب الباردة راجت تكهنات أن الحكومة تراجع بشكل جدي إلغاء الاتفاقية، واحتكاما لهذا المنطق يتحدث الوزير العضايلة عن أن الظروف الحالية غير ما كانت عليه حين وقعت الاتفاقية قبل سنوات، وهنا لا يعني فقط تراجع أسعار النفط، وإنما عدم ثقة الأردن بالقيادة الإسرائيلية.
في العشاء الذي ضم إعلاميين مع وزير الدولة لشؤون الاعلام حضر مدير شركة الكهرباء الوطنية أمجد الرواشدة فقدم شروحات عن الأسباب التي دفعت الأردن لخيار توقيع اتفاقية الغاز، ويُفهم من كلام الرواشدة أنه خيار أُكرهت عليه ولم تذهب إليه طوعا، وجاء بعد أزمة انقطاع الغاز المصري في بداية الربيع العربي 2011، وتفجير خط الغاز لأكثر من 25 مرة دون أية ضمانات من الحكومة المصرية، وهو ما دفع صحفيين مشاركين بالعشاء للسؤال عن المستفيد من تفجير خط الغاز، وهل كانت إسرائيل تقف خلف من قاموا بذلك؟
الرواشدة كان يتحدث بألم بعد تزايد الاتهامات، ويكشف أن الأردن لا يمكن أن يفرّط بأمن الطاقة ومنظومة انتظامها واستقرارها التي تضاهي أفضل المعايير العالمية، ولهذا طرق كل الأبواب بحثا عن حلول متنوعة ومستدامة، وأنشأ ميناء الغاز المسال، وطرح عطاءات دولية لضمان تدفقه، مبينا أن قطر قدمت عرضا أعلى من الأسعار العالمية، والجزائر لم تبدِ اهتماما بالعطاء، وكانت شركة شل هي الأفضل.
تنويع خيارات الطاقة حسب حديث الرواشدة أجبر شركة الكهرباء الوطنية لتوقيع اتفاقية الغاز الإسرائيلي مع شركة نوبل إنيرجي باعتبارها "حلا دائما" يضمن تدفق الغاز الطبيعي وهو الأفضل لمحطات توليد الكهرباء وفق أسعار منافسة ومقبولة مقارنة مع أسعار الغاز المسال المرتبط بأسعار برنت العالمية، وبذات الوقت يشير إلى مباشرة الحكومة خطوات جدية لاستخراج النفط من الصخر الزيتي والاهتمام بالطاقة المتجددة.
مهما قدمت الحكومة من روايات واقعية لأسباب توقيعها اتفاقية الغاز فإن الأردنيين لن يرحبوا بها ولن يتفهموها، فهم لن يتقبلوا فكرة رهن أمنهم "وتسليم رقابهم" للإسرائيليين، وعدا عن ذلك فإن اتفاقية الغاز وسريان ضخه لن ينعكس بانخفاض سعر كلفة الكهرباء على المواطنين.
أردنيون مقتنعون أن بلادهم وقع تحت مطرقة الابتزاز الأميركي الإسرائيلي في اتفاقية الطاقة، ويعيدون ترويج اتهامات وشبهات طالت وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري باستخدامه نفوذه في الضغط لتمرير الاتفاقية.
أردنيون مُقتنعون أن بلادهم وقعت الاتفاقية تحت مطرقة الابتزاز الأمريكي الإسرائيلي
هذه الاتهامات تتقاطع وتُعيد إنتاج ما كشفه موقع "كالكليست" الاقتصادي الإسرائيلي التابع لصحيفة "يديعوت أحرنوت" عن ملكية كيري لأسهم في شركة نوبل أنيرجي.
سألت وزير الدولة لشؤون الإعلام ومدير شركة الكهرباء الوطنية عن هذه الاتهامات فأجابا بأنهما لم يسمعا بها.
أكثر ما يغيظ الأردنيين أن يتباهى نتانياهو أن اتفاقية الغاز تجلب الرفاه للإسرائيليين، وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن 15 مليار ستكون عائدات بيع الغاز خلال 15 عاما القادمة، ولهذا يكاد يُجن الناس، فبدلا من إسقاط نتانياهو الذي يحاكم باتهامات متعددة في بلاده، تأتي اتفاقية الغاز كطوق نجاه وتسهم في تلميع صورته بالشارع الإسرائيلي باعتباره منقذا اقتصاديا لهم.
اتفاقيه الغاز رغم المعارضة الشعبية لها أصبحت أمرا واقعا لا مفر منه في الوقت الراهن، وتقرأ على السوشيال ميديا من الحملات المطالبة بإسقاطها من يقول "الأردنيون سيدفعون 10 مليار دولار للإسرائيليين لكي يقتلونا"، وآخرون يتندرون بالقول "الأردنيون يمولون من جيوبهم الممارسات الوحشية وانتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية".
ملخص القول إن الشارع الأردني يجد أن الاتفاقية "سم زعاف" يتجرعونه مجبرين بعد أن أوصدت أبوابهم لـ 25 عاما في وجه اتفاقية السلام التي لم تبصر النور شعبيا رغم توقيعها عام 1994.
الحرة