خطاب الضمير في البرلمان الأوروبي
د. بسام البطوش
16-01-2020 12:26 PM
قبل نحو خمس سنوات، وقف الملك عبدالله الثاني مؤكدا أمام البرلمان الأوروبي على قضايا أساسية ثلاث، أولها، وجوب تصحيح المفاهيم حول الاسلام (دين الرحمة والسلام والتسامح) في الذهنية الأوروبية، والعالمية، وازالة ما ارتبط بصورة الاسلام والمسلمين من تشوهات وشبهات، استنادا الى أحكام مسبقة، حينا، وجراء بشاعات التطرف والارهاب،حينا آخر، في وقت كانت فيه جرائم داعش وأخواتها في أوجها في العراق وسوريا، اضافة الى ما شهدته مناطق أخرى في العالم، من أعمال ارهابية. وأكد جلالته حينها على ضرورة تحرير العقل الغربي والدولي، من تداعيات ظاهرة الخوف من الاسلام ( الاسلاموفوبيا)، التي تتغذى على الأفكار المغلوطة والخاطئة والأحكام والتصورات المسبقة والمشوهة. أما القضية الجوهرية الثانية، التي تمحور خطاب جلالته حولها، فكانت القضية الفلسطينية. مثيرا سؤالا جوهريا:" لماذا لا يدافع العالم عن حقوق الشعب الفلسطيني"؟ وشارحا الانتكاسات، التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، ومحذرا من أن هذا الصراع المستمر سوف يولّد مزيدا من الكراهية والعنف والارهاب في جميع أنحاء العالم. وثالث القضايا، هي ضرورة بناء الأمل، فالتطرف يتغذى على انعدام الأمن الاقتصادي والاقصاء.
وبالأمس، يعود جلالة الملك مجددا لمخاطبة البرلمان الأوروبي، حاملا هموم العرب وشجونهم كلها، وقد تفاقمت مشكلاتهم، وتعددت ملفات القلق وتكاثرت صواعق التفجير في المنطقة العربية. والبداية من القضية الفلسطينية، وهي في المصطلح الملكي تمثل أعمق جرح في منطقتنا، وقد وجه جلالته سلسلة من التساؤلات المطروحة على الضمير الأوروبي، المتجسد في برلمان أوروبا. فماذا لو تخلى العالم عن حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي؟ وخطورة الامتثال لرغبة البعض في فرض حل دولة واحدة "مبنية على أسس غير عادلة، تضع الفلسطينيين في مرتبة مواطنين من الدرجة الثانية، تدير ظهرها لمنطقتها، وتديم الانقسامات بين الشعوب والأديان في جميع أنحاء العالم".
الرسالة الملكية الصادقة والدافئة واضحة، وتقول أنه " لايمكن الوصول إلى عالم أكثر سلاما دون شرق أوسط مستقر. والاستقرار في الشرق الأوسط، غير ممكن دون سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين". فلا سلام عالمي إن لم يتمتع الشعب الفلسطيني بحقوقه العادلة. والقدس هي جوهر القضية الفلسطينية، فلا حل لو بقيت القدس موضع نزاع وصراع سياسي. مشددا جلالته على أهميتها وخصوصيتها في وجدانه الشخصي، كما على خصوصيتها التاريخية للهاشميين، ومحذرا من سلب المسلمين والمسيحيين في القدس الروحانية والسلام والعيش المشترك.
ويطرح جلالته سلسلة من التساؤلات تسلط الأنظار على صواعق التفجير المنزرعة في هذه المنطقة، الممتدة من المواجهة الأمريكية - الايرانية على حافة الهاوية، وخطورة الوقوع في الهاوية، وبالتالي سقوط المنطقة بأسرها نحو حرب شاملة. تهدد الاقتصاد العالمي، وتفتح الأبواب الى عودة الارهاب في جميع أنحاء العالم. انتقالا الى الحالة في العراق، والتساؤل، ماذا لو انزلق الى دوامة الصراع؟ وصولا الى سوريا، وماذا لو بقيت رهينة للصراعات العالمية، وماذا لو انزلقت الى الصراع الأهلي مجدا؟ لتغرق الجوار والعالم بموجات لجوء جديدة؟ وماذا لو عادت داعش لتطل على العالم مجددا بارهابها من البوابة السورية؟ وتساؤلات الملك، كما هي هموم العرب، تمتد الى ليبيا، والتخوف من تحولها الى دولة فاشلة، أو لتصبح سوريا جديدة على تخوم أوروبا؟
وأوجاع العرب، التي يفتح جلالته جراحها أمام العالم في كل مناسبة، وهنا أمام ممثلي الشعوب الأوروبية، لا تقتصر على تحديات السلم والأمن والتطرف والارهاب، لكنها تمتد الى التنمية، واحتياجات الشباب العربي للأمل والعمل، ووجوب توليد 60 مليون فرصة عمل لهم في السنوات العشر المقبلة! لكن، كيف للعرب وحكوماتهم تأمين هذه الفرص في ظل انزراع كل تلك الصواعق في الجسم العربي؟ وهنا يتسائل جلالته، ماذا لو لم تتمكن التنمية العربية من خلق هذه الفرص لصالح الشباب؟ فما البديل؟ وهل ستشكل اخفاقات التنمية والأمن والسلم في دنيا العرب البيئة المثالية للتطرف، ولعمليات الاستقطاب والتجنيد في صفوف الشباب العربي؟!
جلالته يوجه هذه الرسائل الى ضمير أوروبا واتحادها وبرلمانها، بهدف تعزيز التعاون والشراكة، لاتخاذ خطوات استباقية لمحاصرة اليأس والصراعات والمواجهات، ولنزع صواعق التفجير المنغرسة منذ زمن في الجسم العربي. ولعل أوروبا تخلق حالة من التوازن المفقود في السياسات الدولية حيال العرب وقضاياهم. ولتعزيز الشراكة مع الجار الأوروبي المتأثر بشكل مباشر بمشكلات المنطقة العربية وهمومها. ويبقى الصوت الملكي هو صوت الضمير العربي في زمن غاب فيه العرب، وتلاشت جامعتهم، وضاعت حقوققهم، وتبددت مصالحهم، وخفت صوتهم، واستبيحت كثير من دولهم، وتوزعت بلدانهم بين الهم والهم.