أدت سلسلة من المواجهات بين القوات الأمريكية المسلحة ونظيرتها الإيرانية ومن يحاربون عنها بالوكالة إلى مقتل اللواء البارز قاسم سليماني قائد فيلق القدس، وهو ذراع إيران التي تحارب في الخارج والذي حقق انتصارات ملحوظة في مختلف مناطق الشرق الأوسط، وتبدو إيران الآن مضطرة للثأر بعد تعرضها لهذه الضربة الموجعة.
كان سليماني يتمتع بخبرة في القتال لأكثر من أربعين عاماً، حيث كان لواء محنكاً من الناحية التكتيكية وكان واحداً من أهم الشخصيات العسكرية الإيرانية. وحقق فيلق القدس البارز الذي كان يقوده سليماني انتصارات حيثما خاض معاركه، ويذكر أنه كان الشخص الثاني من حيث القوة والنفوذ في النظام الإيراني بعد القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي.
ترى هل يتصاعد التوتر ليؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة كما يلمح إلى ذلك الكثير من الأشخاص عبر الإنترنت؟ على الأرجح لن يحدث ذلك، فمنذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها واخترعت القنبلة النووية، ظلت الحرب بالوكالة الطريقة السائدة لتسوية الخلافات بين القوى العظمى في العالم. وإذا لم يبدأ النزاع، فستقدم الولايات المتحدة دعماً كبيراً لتحالف من الدول العربية السنية، بينما ستتلقى إيران بدورها دعماً هائلاً من روسيا. وقد تقدم الولايات المتحدة جنوداً، لكن ليس بقدر ومستوى ما ستقدمه من مساعدة في التمويل والمعدات.
تلوح في الأفق عبارة "لا مزيد من الحروب عديمة الجدوى" التي باتت جلية في السياسة الأمريكية منذ المهزلة التي تمثلت في الحرب على العراق. ولاقت الضربة فعلياً إدانة من كل شخصية في الحزب الديمقراطي، وكذلك الحال بالنسبة لمثيلاتها، وقد تعهد ترامب نفسه بخفض التدخل في الشرق الأوسط أثناء حملته الانتخابية الأولى (وهو ما لم يسر على خير ما يرام). لذلك يسعنا القول إننا لن نشهد إرسال عدد كبير من الجنود الأمريكيين لمحاربة إيران. وعلاوة على ذلك، عندما يغرق الجنود الأمريكيون في مستنقع من الحرب ويبدؤون بالتعرض للخسائر في مواجهة تم تضليلهم بأنهم سيحققون فيها نصراً مؤزراً، سيتضاءل عندها الدعم المحلي للمجهود الحربي، بالتالي يتم حث الرئيس على إنهاء النزاع من خلال التراجع في دعمه. لقد حدث هذا الأمر في حرب فيتنام عندما حقق جنود شمال فيتنام بمعداتهم المتواضعة إلى جانب الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام انتصارات عديدة على أعدائهم الأمريكيين. ومع عدم رغبته بالمخاطرة بإضعاف شعبيته الهشة أصلاً، لا يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ميالاً إلى الإقدام على تكليف نفسه بمهمة لا طاقة له على إنجازها.
وغرد ترامب عبر موقع تويتر قائلاً: "52 موقعاً إيرانياً مستهدفاً (إنها تمثل عدد الرهائن الأمريكيين الـ 52 الذين احتجزتهم إيران قبل سنوات عديدة)، ويشكل بعض تلك المواقع مستوى عالٍ جداً من الأهمية لإيران والثقافة الإيرانية، وسيتم ضرب تلك المواقع وضرب إيران ذاتها بسرعة عالية وقوة كبيرة. لا تريد الولايات المتحدة مزيداً من التهديدات!"
وقال ترامب في تغريدة أخرى: "المئات من المتظاهرين الإيرانيين. لقد كان يشن هجوماً على سفارتنا، وكان يستعد لتوجيه ضربات إضافية في مواقع أخرى. لم تكن إيران لسنوات عديدة إلا مصدراً للمشاكل ولا شيء سواها. ليأخذوا هذا بمثابة تحذير لهم، فإذا قامت إيران بضرب أي من الأمريكيين أو ما يخص أمريكا، فإننا..."
كما يبدو أن الرئيس الأمريكي يتخذ موقفاً عدائياً بصورة علنية ضد إيران، ولكن في الواقع ليس من مصلحته أن يشن عليها هجوماً شرساً.
تحدٍ أكبر من العراق
يبدو أن الكثير من الأمريكيين يتوقعون دماراً شاملاً للقوات الإيرانية خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، كما حدث ضد القوات العراقية عام 2003، لكن هناك الكثير من العوامل التي تجعل من الاجتياح المحتمل لإيران مهمة تحقيقها أصعب بكثير من آخر المغامرات الأمريكية في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، نجد أن القوات العراقية تحت إمرة صدام حسين والقوات الإيرانية الحالية على مستويين مختلفين من الفعالية، حيث كان جيش صدام حسين يعاني من تردٍ في معداته بسبب العقوبات التي كانت مفروضة على نظامه. ويوضح تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن العراق لم يكن يمتلك عام 2003 سوى ما يقارب 2000 مركبة قتالية، كانت 700 منها على الأقل بحالة جيدة، لكنها مع ذلك كانت قديمة، ولم يكن الجيش العراقي يملك سوى نصف مدى الدبابة الأمريكية M1A1 Abrams. أما قوات صدام الجوية، فقد كان قوامها 300 طائرة، لكن معظمها كانت تعتبر عديمة الجدوى. ونظراً لذلك، فلم يتم استخدام الطائرات العراقية أصلاً في تلك المواجهة. في المقابل، تحتل إيران المركز الرابع عشر من حيث القوة العسكرية من بين 137 دولة في تصنيف القوى العسكرية العالمي لعام 2019، وذلك في ظل امتلاكها مصفوفة هائلة بشكل مطلق من راجمات الصواريخ والمدافع. ويمكننا من خلال ذلك تأكيد أن العقوبات لم تشكل ضربة موجعة لإيران بقدر ما فعلت بالعراق، ولعل السبب وراء ذلك أن إيران لديها صناعة أسلحة محلية جيدة، وتتلقى أموالاً وأسلحة من روسيا والصين. وتشير التقارير إلى امتلاك إيران برنامج نووي وإلى أن ما تملكه من صواريخ باليستية تغطي المنطقة الواقعة ما بين تونس وميانمار بأكملها. وعلاوة على ذلك، اكتسبت عناصر قوات النخبة الإيرانية خبرة رهيبة في القتال خلال السنوات القليلة الماضية، لا سيما في العراق وسوريا، مما جعلها مستعدة لحرب محتملة. ورغم أن الأعداد الكبرى لا تكفل النصر دائماً، غير أن إيران باستطاعتها أن تحشد عدداً أكبر من القوات بما أنها ستكون أقرب إلى أرض المعركة، علماً أن عدد سكانها الذي يتجاوز 80 مليون نسمة يمكن أن يخدم القوات الإيرانية على أكمل وجه في حرب استنزاف محتملة، وقد فعل ذلك بكل تأكيد إبان الحرب الإيرانية العراقية. كما يمكن لإيران أن تستفيد إلى حد كبير من كل هذا خصوصاً وأنها أدرى بتضاريس المنطقة.
صواريخ إيران الباليستية
تعمل إيران على تطوير قدراتها الصاروخية الباليستية منذ ثلاثة عقود من الزمن، وفيما يلي بعض أبرز الصواريخ التي يستخدمها الجيش الإيراني.
القدرات الصاروخية الإيرانية منذ عام 2017. تصر إيران على أن هذه الأسلحة لن يتم استخدامها إلا لغايات دفاعية، لكن الدول التي على خصومة معها تدعي أن الغاية منها شن حروب هجومية.
وفيما يخص التضاريس، لدى إيران طبيعة طبغرافية تختلف اختلافاً هائلاً عن العراق، كما أن الجغرافيا الإيرانية من شأنها أن تصعب على الجنود الأجانب مهمة الحصول على موطئ قدم في الجمهورية الإسلامية.
خريطة طبغرافية لإيران والبلدان المحيطة بها، حيث تشير القيمة 3000 إلى تضاريس جبلية شديدة الانحدار والوعورة، بينما تشير القيمة صفر إلى الأراضي المسطحة.
يمكنك أن ترى في الخريطة أن معظم الأراضي العراقية مسطحة جداً، ولعل ذلك ما سهل على الجنود الأمريكيين والدبابات الأمريكية مهمة التنقل في أرجاء رقعة الحرب. أما إيران، فنجد أن تضاريسها في المقابل وعرة وجبلية، ومن شأن هذا الأمر أن يضع أمام أي جيش يجتاح إيران مهمة شاقة لإرساء وجود قوي هناك. وبعيداً عن كون الجغرافيا في المنطقة تقدم غطاء للقوات المسلحة الإيرانية، فإن حرب العصابات من شأنها أن تنجح في مثل تلك الظروف أيضاً.
قام الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1979 باجتياح أفغانستان التي يمكنكم أن تروا في الخريطة أعلاه أن طبيعتها تتسم أيضاً بالتضاريس الوعرة. وقد استغلت الجماعات التي حاربت الجيش السوفييتي التضاريس المذكورة في صالحها. بالتالي نرى أن المقاتلين الأفغان غير المدربين استطاعوا إلحاق الهزيمة بالقوة العظمى في حرب استمرت لعشر سنوات. وقد نرى وضعاً مشابهاً لذلك إذا حاولت أية دولة غزو إيران؛ وحتى وإن كان الإيرانيون الطرف الأضعف في المواجهة، باستطاعتهم استغلال الجبال لمصلحتهم كما فعل أهالي القبائل والقرى الأفغانية ضد القوة السوفييتية الضاربة التي ضمت 115.000 مقاتل.
أي استراتيجية ستتبعها إيران؟
إن أهم ما تراهن عليه الجمهورية الإسلامية في نجاحها في الدفاع عن نفسها متمثل في توجيه "ضربة وقائية." وبصورة أبسط، يمكن وصف هذا الإجراء بالقول "خير وسيلة للدفاع هي الهجوم." فأساساً عندما تكون لدى إحدى الدول سبباً للاعتقاد بأنها عرضة لتهديد وشيك، نجدها تهاجم أولاً لكسب أفضلية في النزاع الذي يوشك على الوقوع. وجاء المثال الأكثر شهرة على هذا الأمر قبل نكسة 1967، إذ لم تكن إسرائيل قد تعرضت لهجوم من مصر بعد، لكن مصر أظهرت بشتى التصرفات أنها كانت تستعد للهجوم على إسرائيل، لذلك نجحت الأخيرة بشن هجوم استباقي على المواقع العسكرية المصرية في الخامس من حزيران / يونيو لمنع ذلك ولتكون لها اليد العليا في المواجهة. وعلى نحو مماثل، من السهل أن يرى الإيرانيون مقتل سليماني بصاروخ أمريكي عملاً عدائياً، وأن إيران محاطة بالكامل تقريباً بقواعد أمريكية. هذه واحدة من أهم الأوراق الأمريكية التي في يد رئيسها ترامب؛ وبسبب هذا الأمر، من المرجح جداً أن تسعى إيران لضرب مواقع أمريكية حول دولتها، وربما تفعل ذلك من خلال برنامجها الصاروخي القوي. ومن شأن هذا الأمر أن يصعب على الأمريكيين شن هجومهم، مما يمنح إيران مزيداً من الوقت للاستعداد لحرب مفتوحة. وما يزيد من ترجيح هذا الأمر أن القائد الإيراني الأعلى نفسه أعلن أن بلاده ستذهب إلى "انتقام شديد." كما تشير التصريحات العلنية الكثيرة الصادرة عن الأجهزة الأمنية الإيرانية والدبلوماسيين الإيرانيين إلى أنهم جادون فعلاً حيال الثأر لمقتل سليماني.
توجد أربعين قاعدة أمريكية حول إيران. ولعل الضربات المحتملة ستكون موجهة ضد مواقع في العراق وأفغانستان ودول الخليج العربي، حيث تربط إيران علاقات ودية مع عمان وباكستان وتركيا وقطر؛ بينما يمكن وصف العلاقات مع الكويت بالباردة، لكن لا وجود لعداء كامل بين البلدين.
تحكم الميليشيات المدعومة من إيران قبضتها على العراق، ويبلغ تعدادها بمئات الألوف، وباستطاعة إيران استخدامها لمهاجمة الجنود الأمريكيين هناك بدلاً من إرسال قواتها مباشرة لشن الهجوم؛ أو يمكن لتأثيرها السياسي على العراق أن يدفع التصويت المنتظر إلى طرد الجنود الأمريكيين من البلاد، مما يعني أن جبهة كاملة محتملة لن يعود من الواجب تواجدها على رادار إيران.
تم رفع العلم الأحمر للإمام الحسين في مدينة قم الإيرانية هذا الأسبوع في إشارة إلى قرب الانتقام لمقتل سليماني.
هل سيكون لإسرائيل أي دور؟
قال القيادي السابق في الحرس الثوري الإيراني، محسن رضائي، إن المدن الإسرائيلية قد تمثل أهدافاً للضربات الانتقامية المتوقعة. لكن إذا حدث هذا فعلاً، فلا يرجح أن تشارك إسرائيل في المجهود الحربي ضد إيران. فخلال حرب الخليج الأولى، أطلق الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين صواريخ سكود على إسرائيل بغية نزع الشرعية من الجيوش العربية التي كانت تحاربه؛ فإذا نجح في وضع تلك الجيوش في خندق واحد مع إسرائيل، فسينظر الرأي العربي العام إلى تلك الجيوش على أنها خائنة للقضية الفلسطينية والعربية. وقد أقنعت الولايات المتحدة التي كانت تدرك ذلك إسرائيل بعدم التورط ومنح صدام حسين شرف البطولة في المنطقة. ومن شأن الموقف ذاته أن يتكرر في هذه الحالة؛ ومع أن الغالبية العظمى من الشعوب في الشرق الأوسط تحمل مشاعر سلبية تجاه إيران، فلا شك أنها ستؤيد أي مجهود ضد إسرائيل. ولذلك سيتخذ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة التدابير لمنع إسرائيل من الدخول في المعركة ضد إيران.
الشعوب الأكثر رفضاً لإيران
قد تتخذ المشاعر السلبية الكبيرة تجاه إيران منحى معاكساً لو اشتبكت في نزاع مسلح مع إسرائيل.
الخاتمة
بينما تمتلك الولايات المتحدة الترسانة العسكرية الأقوى في العالم ولديها قواعد عسكرية في كل ركن من أركان المعمورة، إلا أن عوامل متعلقة بالحالة المعنوية والمعرفة بالتضاريس والجغرافيا والقدرة اللوجستية تعني أن الحرب المحتملة بين إيران من جهة والولايات المتحدة وحلفاءها من جهة أخرى من شأنها أن تفضي إلى مواجهة متكافئة فعلياً. ومن الواضح أن الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى ومن يحاربون عن إيران بالوكالة في منطقة الشرق الأوسط وخبرتها القتالية وقدرتها على استخدام تكتيك حروب العصابات تشكل جميعها عقبة أمام الولايات المتحدة. لكن إيران تواجه في المقابل صعوبات كبرى متمثلة في القواعد الأمريكية والدول المعادية التي تطوقها، كما أن العقوبات أدت إلى إضعافها أمام خصومها. وبغض النظر عن ذلك، ينبغي التنويه إلى أن هذا الموقف لن ينطبق عليه سيناريو مقولة يوليوس قيصر الشهيرة "أتيت، رأيت، غزوت" بالنسبة للولايات المتحدة، فالقوة العسكرية الإيرانية تتطلب ممن يدخل في مواجهة معها أن يعد لها العدة.