بخطواتها التي تجر وراءها ثمانين عاما، دلفت الحاجة فاطمة محاشي إلى "الغد" فرصّعت صباحاتها بالطيبة والصبر والكرامة.
لم تأتِ كي تتسول، حاشا لله أن تسلك سنديانة كأم هاني هذا الدرب. جاءت كي تطالب بما تعتقده استحقاقا: راتبا تقاعديا لزوجها الراحل الذي خدم في الحرس الوطني.
لم تطلب بيتا، بل جاءت تنشد حياة بلا عذابات، كي يتسنى لها عبور سنواتها المقبلة من غير ذل أو مهانة.
هكذا هم الفقراء في بلادنا؛ يقبضون على الجمر ولا يسألون أحدا منّة، وتراهم أشد الناس غنى، فيما جيوبهم فارغة، وقلوبهم مثقوبة بالأسى والآهات.
هؤلاء الفقراء النبلاء يقاسون الأمرَّين، ويتقلبون على نار الحاجة والفاقة والحرمان، ومع ذلك يتجمّلون بالصبر. أثمّة حلية يمكن أن يتزين بها المرء أهمّ من الصبر والرضا؟
بهذه الروحية الفطرية قطعت الحاجة فاطمة المسافة من بلدة حلاوة في محافظة عجلون كي تهنئ رئيس الوزراء السابق المهندس نادر الذهبي في الخامس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، وتشرح له حالتها، وأظن أنها لم تستجدِ، ولم تطلب أكثر مما يعينها على تجشّم مواصلة عناء الحياة بكرامة. ثم جددت الطلب من رئيس الحكومة الحالي سمير الرفاعي بعدما قامت بواجب تهنئته في رئاسة الوزراء.
وقبل أن يجف حبر هذه المقالة، كانت الحاجة فاطمة، التي فقدت في أول حياتها أطفالها الأربعة، تعتاش على 50 دينارا من صندوق المعونة الوطنية، تدفع 30 منها أجرة غرفتها المستأجرة، إضافة إلى عشرة دنانير للكهرباء والماء، وتمضي بقية الشهر بالعشرة دنانير المتبقية، وتنام على فرشة ممزقة، وتبيت ليالي طويلة بلا طعام!
ومع ذلك، ظلت تعتصم بالأمل، فاستدانت دينارين للحضور إلى عمّان، وزيارة "الغد"، بعدما شاهدت صورتيها منشورتين في الصحيفة الخميس الماضي، تحت عنوان"حاجّة بين حكومتين"، وجاءت لكي تشهر ألمها على الملأ، وتنطق بلسان عشرات الآلاف من الفقراء الذين من الظلم الفادح أن نظل نطالبهم بالصبر، وندعو لهم بالسلوان، فلصبر هؤلاء حدود، ولمعاناتهم مدى وطاقة، ولم يكن الإمام علي كرم الله وجهه مبالغا أبدا حينما قال "لو كان الفقر رجلا لقتلته".
الأرقام تشير إلى أن معدل الفقر في الأردن، بحسب آخر إحصائيات رسمية، يبلغ 13%، وأن حد خط الفقر السنوي للفرد يبلغ 552 دينارا سنويا، بمعدل 46 دينارا شهريا.
ومع أن ثمة 25 جيب فقر تتوزع على محافظات المملكة الاثنتي عشرة، إلا أن ثمة توقعات بأن تزداد رقعة الفقر وتتسع، ما يجعل هذا الملف يحتل الأولوية في أجندة حكومة الرفاعي التي اهتمت بسرعة قياسية بقضية الحاجة فاطمة، ونأمل أن تولي العناية القصوى لجيوب الفقر برمتها، وخصوصا ذلك الفقر الصامت، حيث الأنين المخنوق، والصرخة الأسيانة، والدمعة التي تحرق الخد المتغضّن.
m.barhouma@alghad.jo
* الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد..
............................
كنات الغد نشرت الخميس صورتي الحاجة وكتبت التعليق التالي :
حاجة أردنية كانت حريصة- كما يبدو- على تقديم التهنئة لرئيس الوزراء سمير الرفاعي في أول يوم عمل له بعد أداء اليمين الدستورية، وكانت الحاجة حرصت على أن تفعل الأمر نفسه لدى تشكيل نادر الذهبي حكومته في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007.
صورتان، تفصل بينهما سنتان، تغيرت فيهما الحكومة ورئيسها، وبقيت فيه هذه "السنديانة"!. ترى ما الذي يدفع حاجة سبعينية لتحمل معاناة الوصول إلى دار الرئاسة؟ أهي التهنئة.. أم هي قضية بقيت معلقة بين حكومتين؟