المطلوب اليوم قيام علاقة صحية خارج إطار التبعية والريعية, وعلى أسس متكافئة بين الحكومة ومكونات الجسم الاعلامي وأدواته كافة, أساسها النزاهة, الشفافية والاحترام المتبادل لادوار الطرفين وحدود عملهما.
مع قرار حل مجلس النواب الأخير بطريقة مفاجئة, وتعيين حكومة جديدة لتنفيذ أجندة ملكية إصلاحية متكاملة بما فيها التحضير لانتخابات نيابية خريف ,2010 يزيد العبء على وسائل الإعلام الأردنية الرسمية والمستقل ليخرج عن عقلية الرعب والاسترضاء ولعب دوره الرقابي "كسلطة رابعة".
في غياب السلطة التشريعية, صار لزاما على الإعلام بما فيه المواقع الالكترونية أن تتابع مدى التزام حكومة سمير الرفاعي بكتاب التكليف "المثالي", اليوم وبعد بدء تطبيق الاهداف التي ستحددها كل وزارة مدعومة بجداول زمنية واضحة يفترض اعلانها في فترة أقصاها ستة أسابيع.
فالتغيير, مهما كان حجمه صغيرا, سيقابل بمحاولات تعطيل على ايدي الفئات المتضررة وما أكثرها. فكيف سيكون الحال مع بدء تطبيق "خارطة الطريق" صوب إصلاحات شاملة ذكرها خطاب التكليف الملكي في غياب توافق مجتمعي حول شكل وهوية أردن المستقبل.
فالأردنيون من كافة الأصول والمنابت مثلا يجمعون على ضرورة استكمال الإصلاحات الاقتصادية لضمان الحد الادنى من الأمان المعيشي, الخدمي والوظيفي لهم ولأحفادهم. لكنهم يختلفون حيال التحديث السياسي, وبدء تعديل قانون الانتخاب القائم على الصوت الواحد المجزأ لأن في ذلك مسا بهوية الدولة.
فكيف سيتعاطى الاعلام الأردني مع تحدي الهوية السياسية المقبل? هل سيلعب دورا إيجابيا في خلق حوار متزن حيال المطلوب من البرلمان الجديد? ما هي حدود الإصلاحات السياسية الآمنة التي تساعد على خلق تيارات وكتل برلمانية لها أجندات واضحة تساهم لاحقا في تغيير آلية تشكيل الحكومات? هل سيختار الاعلام الطريق الاسهل وهو البقاء ضمن دائرة تسريبات تتحدث عن توافق "كافة أركان الحكم على بقاء قانون الصوت الواحد مع بعض التجميل" فيما يتعلق بمنظومة الإجراءات التي تضمن النزاهة وتشجع المشاركة.
إدارة احدى الصحف واسعة الانتشار استبقت الوضع من خلال دعم التوجه الرسمي وعدم فتح الباب امام انتقاد قانون الانتخاب الحالي ومبدأ الصوت الواحد? في الاثناء تستمر تدخلات هنا وهناك تطالب الصحافيين بعدم تفشيل "الحكومة الجديدة" عبر انتظار أفعالها وعدم الحكم عليها من خلال شخوصها. ترافق ذلك مع خروج بعض كتاب "التدخل السريع" بتحذير زملائهم بعدم القاء العصي في دواليب الإصلاح الموعود لأن ذلك لم يعد مسموحا!
لا يختلف إثنان ان من واجب الإعلام رصد الايجابيات وتعميمها بهدف شحذ الهمم الشعبية المحبطة على وقع سياسات المراوحة بهدف كسب الوقت. لكن, وفي الوقت, على السلطة الرابعة إبراز الواقع كما هو في المرآة من دون تجميل, وليس كما يطلب من وسائل الاعلام تصويره, بهدف تصويب الاعوجاج لأن الكمال وحده يبقى لله.
ولن تجدي نفعا كل محاولات الدفع صوب تحديث منهجي مشروط بحصر دور الإعلام في الدفاع عن سياسات الرئيس وأعضاء حكومته, فذلك واجب السلطة التنفيذية التي تأتي وترحل و لكن النظام والدولة هو الثابت الوحيد.
ولا شك بان أية محاولة لإدارة عقارب الساعة إلى حقبة الإعلام الموجه في زمن انفجار ثورة المعلومات والاتصالات, سيكون لها تداعيات سلبية على ما تبقى من ثقة المجتمع بالحكومات. فكما يقول المثل الانجليزي: "تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت, وبعض الناس كل الوقت, لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".
فالمطلوب اليوم هو قيام علاقة صحية خارج إطار التبعية والريعية, وعلى أسس متكافئة بين الحكومة وكافة مكونات الجسم الاعلامي وأدواته, أساسها النزاهة, الشفافية والاحترام المتبادل لادوار الطرفين وحدود عملهما.
قطاع الإعلام يحبس انفاسه هذه الأيام, بانتظار ما ستقوم به الحكومة لتنفيذ شق كتاب التكليف المتعلق بتطوير صناعة الإعلام المحترف, ضمان حق وسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومة, وحماية المجتمع من الممارسات اللامهنية واللاأخلاقية التي تقوم بها بعض وسائل الإعلام.
من جهته, وعد الرفاعي بأن الحكومة "ستصدر مدونة سلوكية ملزمة تحدد الأسس والمعاييرالاخلاقية لتعامل كل مؤسسات الدولة ومسؤوليها مع وسائل الإعلام, وبما في ذلك معايير الإنفاق الإعلاني والاشتراكات, وبما يضمن الانفتاح والشفافية والنزاهة وتشجيع العمل الإعلامي المهني المستقل ومحاربة العلاقات النفعية إلتي ألحقت الضرر بالمجتمع وبمصداقية الصحافة في الوقت نفسه".
قد يكون هذا التشخيص الرسمي هو الاكثر صراحة منذ سنوات. فمصلحة الدولة تتحقق بقيام وسائل الإعلام بدورها الرقابي. وتقاس فعاليتها عبر أسس ثلاثة هي:
- بيئة تشريعية مساندة تضمن الحريات الإعلامية بحيث يعرف الإعلامي حقوقه, وواجباته, وحدود المباح والمعاقب عليه.
- مهنية جيدة للإعلاميين, تنسحب على اعضاء الكادر الوظيفي كافة وعنوانها الكبير, إحترام الحقيقة مهما كانت وحق الجمهور في الوصول إليها.
- الالتزام بأخلاقيات المهنة.
ان أي خلل في واحد أو أكثر من هذه الأسس, يشكل انتهاكا لحق المواطن في المعرفة, وينعكس سلبا على دور السلطة الرابعة كحارس على المصلحة العامة قادر على دق جرس الانذار قبل وقوع الازمات.
بنظرة سريعة لهذه الاسس, فإن أغلب الصحافيين يشكون من عدم الاستقرار التشريعي المتعلق بقانون المطبوعات والنشر. وهناك إجماع على ضرورة البدء بتعديل القوانين الناظمة للاعلام كافة لتتفق مع دوره كعين للمواطن في مجتمع يسعى صوب الديمقراطية.
منذ عام 1993 لغاية اليوم تم تعديل قانون المطبوعات والنشر سبع مرات, بينما لم يعدل القانون نفسه مرتين ما بين 1953 و 1993. هناك 24 قانونا ومواد قانونية على علاقة بالعمل الصحافي بما فيها مواد موجودة في قوانين أخرى تنظم عمل محكمة أمن الدولة, وتحمي أسرار ووثائق الدولة وانتهاك حرمة المحاكم والتعاملات الالكترونية.
بالنسبة لعامل المهنية, فحدث ولا حرج. المشوار يبدأ بضعف مخرجات كليات الإعلام في الأردن بعد مسخ عقول طلاب المدارس عبر نظام تدريس يشجع التلقين بدل التفكير النقدي, ولا يساهم في تقبل الرأي الآخر لضمان إستمرار النظام الابوى. بعدها يأتي غياب "الأنموذج القدوة" في غرف التحرير, مرورا بغياب برامج التدريب المستمرة داخل المؤسسات الإعلامية, وإنتهاء بغياب أو تغييب دور نقابة الصحافيين في تدريب وتأهيل الكادر الإعلامي, معطوفا على ذلك, غياب أسس المساءلة والرقابة الداخلية, بدءا بحدود سلطات رئيس التحرير وآلية تحديد سياسات التحرير, وترقية الموظفين وصرف المكافآت السنوية وتحديد المعاشات.
أما الأخلاقيات, فتستحق بدورها وقفة مع الذات. حسب إحصائية أعدها الزميل الناشط يحيى شقير , رفعت 114 قضية ضد صحافيين ما بين العام 2000 و2006 ثمانون منها استندت إلى المواد ,4 ,5 7 من قانون المطبوعات التي تتحدث عن أحاد الناس, وليس الشخصيات العامة التي تصبح معرضة للمساءلة حال توليها المنصب).
وجد الزميل شقير أن الاحكام الصادرة خلال تلك المدة برأت الصحافيين في 86 قضية مقابل إدانتهم في 64 قضية اخرى, مما يدل على قلة إدراك الصحافيين للمعايير الأخلاقية والقانونية.
خلال الأيام الماضية تباحث العديد من الإعلاميين بمكونات الاصلاح الاعلامي المنشود لإعانة الحكومة على ايجاد البنية الكفيلة بضمان حرية التعبير بممارسة الإعلام المهني الحر المستقل من خلال خطة تكاملية تسير بتواز, وتبدأ فورا ب¯ :
- تصويب أوضاع زملاء "الكار" ممن يعملون أيضا مستشارين إعلاميين في وزارات ومؤسسات رسمية, أو يديرون مواقع إعلامية الكترونية, وبالتالي يخلطون بين العلاقات العامة وأخلاقيات المهنة الصحافية والتعامل مع حمل وزر النزاهة والموضوعية. لا داعي لتشكيل لجنة لدراسة الموضوع من جديد لأن الحكومة المستقيلة وضعت دراسة متكاملة وحددت فيها لائحة بأسماء العاملين لديها بوظيفة مستشار إعلامي متفرغ أو غير متفرغ.
بعد اليوم, لا مكان لنوم الحكومة والكتاب والصحافيين في فراش واحد.
- قيام الحكومة بالتخلي عن حصتها غير المباشرة في مؤسستين صحافيتين. فالحكومة عبر مؤسسة الضمان الاجتماعي تمتلك اغلبية أسهم جريدة "الرأي" وثلث أسهم جريدة "الدستور". كان من المفترض ان تتم خطوة تدريجية كهذه عام 1993 ليتراجع عن ذلك الهدف في العام .1997
- الإعلان عن أسس توزيع اشتراكات وإعلانات الوزارات والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية في الصحف المحلية والمواقع الالكترونية لكي لا تستمر السلطة في استخدام أدوات ثواب وعقاب غير عادلة مع من يدافع عن سياساتها ويتملق لها.
على المدى المتوسط:
- لا بد من إعادة النظر بمواد قانون نقابة الصحافيين الأردنيين, تحديدا ما يتعلق بشروط العضوية والانتساب لتوسيع قاعدة المشاركة. في حال اصر قانون النقابة على إلزام عضوية الصحافيين, فلا بد من إعادة تعريف الصحافي في زمن إعلام المواطنة والعولمة.
- تعيين هيئة مستقلة لتلقي شكاوى المتضررين من ممارسات الصحافة بدلا من حصر الموضوع بنقابة الصحافيين, وترك قرار إحالة الزملاء المخالفين إلى لجنة التأديب الداخلية وليس بيد النقيب ومجلس النقابة "إذا أرتأى المجلس ضرورة لذلك".
- وقف التدخلات الامنية كافة التي ترافق انتخابات النقابة كل اربع سنوات
- إعادة النظر بقانون الإعلام المرئي والمسموع فيما يخص ترخيص الإذاعات لفك حلقة التلزيم القائم من خلال الممارسات الفعلية. من غير المقبول أبدا استمرار منح امتيازات لرجال أعمال وساسة من الموالين للسلطة, من محاسيب وحتى أصهار حاليين وسابقين. فهناك مستثمر سمح لشركته استغلال ترددات إذاعية محصورة بجهة رسمية قبل خمس سنوات من دون أن يسدد رسوم الترخيص واستعمال الترددات ومحطات التقوية وغيرها من الضرائب التي تستوفيها الحكومة, ومن دون طرح عطاء مفتوح يخوضه المؤهلون كافة. يجني أصحاب هذه المحطة الملايين من الأرباح المعفاة من ٍٍالضريبة على المبيعات ورسوم أخرى مفروضة على إذاعات منافسة تعمل في الأردن, ومطلوب منها العمل بشفافية وتسديد مستحقاتها السنوية بما فيها رسوم التأسيس المرتفعة أصلا.
- السماح لكافة الإذاعات ذات البرامج الاخبارية تغطية جلسات مجلس الامة, وأمانة عمان الكبرى, وضمان حقها في الحصول على النشرات التي تصدرها مديرية الامن العام حيال وضع السير على الطرقات.
- شرح ملابسات السماح لشركة تدريب إعلامي غير ربحية مسجلة لدى وزارة الصناعة والتجارة استئجار مبنى المجلس الأعلى للإعلام سابقا من دون طرح مناقصة عامة مفتوحة للجميع لإشغال المبنى وإستعمال تجهيزاته.
- شرح الملابسات التي رافقت منع تشغيل محطة تلفزيون فضائية أردنية مستقلة قبل موعد تدشينها الرسمي بساعات قبل عامين, ثم تعيين لجنة لإدارة أملاك المحطة, قبل تصفيتها وبيعها في صفقة غامضة لمستثمر جديد ينوي اطلاق المحطة نهاية الشهر المقبل.
- إلزام المؤسسات الصحافية بالإفصاح عن أرقام مبيعاتها الحقيقية لتساعد المعلنين على اخذ قرار وضع الإعلان المناسب في الوسيلة التي تضمن أوسع انتشار.
- مراقبة قطاع الصناعة الإعلانية لوقف الاحتكار والتواطؤ وشبهات الفساد التي باتت تنخر القطاع وتهديد الشركات الصغيرة.
- قيام المؤسسات الإعلامية الخاصة والعامة كافة بمراجعة الذات لدراسة حال عجزهم الاخير عن اختراق طوق السرية التي صاحبت تشكيل الحكومة الأخيرة لضمان حق المواطن في الحصول على المعلومات الضرورية. إذا نجحت الحكومة في تخبئة أمر مهم كهذا, ستفلح في التمويه على قرارات مماثلة في الاهمية.
- تعديل قانون حق الحصول على المعلومات الذي بدء تنفيذه قبل عام 2007 لاختصار إجراءات تقديم الطلبات, وتسهيل عملية المقاضاة. صحيح أن الأردن يبقي الدولة العربية الوحيدة التي شرعت مثل هذا القانون, لكن المطلوب مراجعته لكي يوفر حافزا لقيام صحافة استقصائية ما زالت غائبة كتقليد عن اغلب غرف التحرير العربية. فهذا النوع الإعلامي المتخصص يبقى السبيل الوحيد لكشف التجاوزات وتعزيز مبدأ المساءلة والمراقبة, من خلال رسم الصورة الحقيقية للوضع القائم عبر توثيق المعلومات والحقائق بطريقة منهجية تساعد على كشف ما يريد المتنفذ إخفاءه.
- إشراك أصحاب المواقع الالكترونية كافة في مناقشة أية تعديلات قانونية قد تمس عملهم مستقبلا.
مقابل ذلك, من حق الحكومة الجديدة ان تنعم ب¯ 100 يوم من راحة البال قبل ان تبدأ الصحافة والصالونات السياسية مراجعة إنجازاتها. فهذا عرف سائد في اوساط السلطة الرابعة لا تحتاج الى وساطة وتدخل جهات معينة يفترض انها أوقفت عادة الاتصالات اليومية بصناع الرأي العام ورؤساء التحرير قبل عام.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net