مات رسمي أبو علي ساخر الثورة .. والموت حق
موسى حوامدة
09-01-2020 03:09 PM
قاصٌ من طراز نادر ورفيع، كاتب خُلق للمشاكسة والكتابة، مناضل وثائر، إعلامي ومذيع وصحفي، صديق قريب من القلب، دمعته حارة وسهلة، ضحكته ساحرة، قصصه مختلفة، شعره سوريالي كلماته بسيطة لكنها نافرة نافذة، صادقة حتى في تجلياتها الفنية، تحليلاته السياسية والثقافية متسامحة، ضاحك كبير، وساخر أكبر، قريب جدا من القلب، كان لا يمضي أسبوع إلا ويتصل بي هاتفيًا أو يكتب لي على الماسنجر. وحين ياتي صوته قائلًا يا ابن خالتي أشعر ان الدنيا لا زالت بخير..
عاش حياة متطعة كسرد، على رأي امجد ناصر رحمه الله، ولد في فلسطين، عاش فيها طفولته الأولى، ثم ارتحل أهله إلى عمان، فتشرب حبها منذ الصغر، وهجم على الحياة، بشراسة، تزوج وطلق، أحب وعشق، كانت النساء نقطة ضعفه، لم يصمد زواجه الأول ولا الثاني، ولم تنجح في علاقتها معه إلا اللبنانية زوجته الأخيرة، والتي فهمت روحه وربما سلمها بقية عمره برضاه، يكره القسوة ويبحث عن الفردوس المفقود، كان وجهه سينمائيًا، ربما يقال كان وسيم الثورة، فنافس بعض القيادات على بعض المعجبات بالثورة، أو القادمات لاكتشاف تجربة الثورة في لبنان، كانت إحداهن فتاة هولندية، تزوجها وأنجب منها بنتًا، لكنه لم يطق البعد عن بلاد الشام، فهي الأقرب إلى مسقط الرأس، عمل في البداية مذيعًا في إذاعة عمان، وكان صديقه الأقرب تيسير سبول رحمه الله.
ظل حالمًا متفائلًا بالثورة، يدافع عن عملية السلام، وعن اتفاقية أوسلو، وعن انتصار ولو بسيط، وعن حلم سيتحقق، ويقول بلاش يتفقوا على القدس، لتكن بيت لحم هي العاصمة، فما المانع أليست مدينة فلسطينية ومقدسة مثل القدس، المهم أن نبلور لنا كيانًا، ولا يغضب لو رددتُ عليه، واعترضت، يضحك ويقول، الرحلة طويلة، وأبو عمار ليس سهلًا.
وحين استلم أبو مازن قال لي صرت مطمئنًا أكثر سيعجِّز الاسرائيليين، أبو مازن هادئ، ولن ينفعل مثل عرفات، إنتظر، لن يجد الإسرائيليون خيرًا منه للتفاهم، والمضي قدمًا، حتى قيام الدولة،
ظل رسمي دائمًا متفائلًا، ولما التقينا في آخر حرب على غزة والتي سقط فيها عشرات الشهداء، لم نتحدث كثيرًا، فقد انفجر باكيًا وهو يقول: قلبي لم يعد يحتمل المزيد من الموتى يا موسى.
كان لا يزال قويًا يهبط إلى وسط البلد، ويلعب ورق الشدة مع أصدقائه البسطاء الذين كون صداقته معهم من المقاهي الشعبية، وكان واحد من شركائه في اللعب لا يسمع، والثاني أخرس، وكان سعيدً بتلك الشلة. لكنه انقطع بعد ذلك عنهم فقد صار التعب والمرض يحولان بينه وبين التحرك بحرية.
في آخر جلسة جسلتها معه في مقهى كوكب الشرق في عمان قبل ثلاثة أشهر، وقد لبى دعوتي للخروج من البيت في مرج الحمام، قال لي:
تعبت والله لولا خاطرك عندي لما خرجت، كان فعلًا يمشي بصعوبة، وقد قام أحد الشبان من جيرانه باصطحابه في تاكسي إلى باب المقهى وساعدته حتى صعد الدرجات بصعوبة وجلسنا.
كان يريد أن يتكلم ودون أن أسأله راح يقول: لا بد أن نعيد تقييم الثورة لقد فلشنا وعليهم أن يتوقفوا لنعيد التفكير في طريقة جديدة نقررها نحن المثقفين في الشعب الفلسطيني
تركنا أبا عمار وأبا مازن ووصلنا الى هذه النتيجة لا أقول أنهما كانا على خطأ ولكني أقول لم نصل إلى الهدف وعلينا تغيير النهج نريد صياغة جديدة وميثاقأ جديدا
توقف وقال: هل تعرف محل الساندويتشات اللي في الشابسوغ، انس هاشم هذا ألذ مطعم فلافل في عمان، فهمت إشارته، قلت انتظر، قال: نصف واحدة فقط، قلت انتظر، ولما عدت وضعت واكلنا الساندويتشات، قلت معك حق، الرجل عرفك وهو يسلم عليك.
بعد أن أكلنا عاد يقول: انت تعرف أنا أبتعد عن الكل لأختط طريقي وحدي، قلت نعم أعرف، ولا أنسى أنك كتبت تلك القصة الشهيرة في عز الثورة في لبنان "قط اسمه ريس مقصوص الشاربين" تسخر من القيادة، وعملت جريدة الرصيف، لتقول للقيادة هناك صوت معارضة مختلف، وكتبت شعرًا حداثيًا على طريقة شوقي أبي شقرا قال نعم لذلك كان صاحبك (يقصد درويش)، يزعل مني ويقول لي اكتب قصة يا رسمي ما دخلك أنت في الشعر، وأضاف أنا كنت أريد أن أقول لهم لن ينفعنا الأدب القديم ولذلك كان درويش لا يحبني وغضب لما رآني بين وفد الكتاب العالميين في رام الله عام 2000م، وهمس لي: وأنت ما الذي حشرك بينهم.
قلت ما الذي بدل موقفك كنت تراهن على أبي مازن وتقول لي أبو عمار داهية وأبو مازن داهية، أين وصلنا مع الدواهي، قال انتهى كل شيء، فشلت الثورة، وفشل العرب، وفشل اليهود، وكما قلت لك لا بد أن نفكر بمنظمة جديدة، ثورة جديدة، كيف؟ خلينا نفكر سنجد. نعم ضللنا الطريق وعلينا أن نفكر بصياغة ميثاق وطني جديد.
أنا كنت أقول أن اليهود أذكى من أن يفرطوا برجل مثل أبي مازن لكن يبدو أنهم ليسوا أذكياء كما توقعت.
قبل عام وأكثر ماتت ابنته، ومع ذلك ظل متماسكًا إلى حد ما، ولكن هدَّه الحزن، قال هذه أول مرة أسلم نفسي فيها لطبيب هلكوني أدوية وأبرًا، قلت تماسك ما زلنا بحاجتك، قال تعبت وأقولك يا ابن خالتي بيني وبينك: اشتقت لمصطفى. (مصطفى أبو علي شقيقه كان مخرجا سينمائيًا رحمه الله).
كلما كان يتصل يقول يا ابن خالتي واعتقد البعض أنه ابن خالتي بحق، حتى قال مرة ضاحكًا: أن تكون أنت ابن خالتي شيء جميل، خلي الناس مصدقة، فكل أمهاتنا شقيقات، ولن نختلف على ميراث.
الشعب الفلسطيني أنجب مبدعين كبارًا وكثيرين، وحتى اليوم للأسف تتعامل السلطة الوطنية مع الثقافة باعتبارها إعلاما ودعاية أو مجرد وظيفة.
نعم صدقت يا رسمي فشلنا، والثورة فشلت، وبلادنا محتلة، وشعبنا مشتت، وما زال هناك من يكابر ويعتبر نفسه دولة وله شرطة واعلام وحرس وجوقة من الكتاب.
أعرف يا رسمي أنك تعبت ولم تقو على الاستمرار والله معك حق، لقد آن الأوان لكي ترتاح فلكم تحملت وتألمت وأنت تضحك وتسخر والمرارة داخلك مالحة مثل اسم (المالحة) مسقط رأسك..