جاء اسم الكنغر من الجملة الشهيرة: (كنغاروو)، والتي تعني في لغة السكان الأصليين للقارة الأسترالية: أنا لا أعرف ماذا تقول؟. فحين وصل المستمر الأوربي إلى تلك الديار لفت انتباهه حيوان غريب، يخبئ صغيره في جراب في بطنه، ويقفز بنشاط بقائمتين قويتين يسندهما ذيل أقوى. وحين سأل عنه اسمه قالوا: كنغاروا. فهم لم يفهموا سؤاله؛ لأنهم لا يعرفون لغته.
وأنا قلت هذا مع كل حزن أسى يوم أمس، حين شاركنا على فيسبوك صديقي ميخائيل حداد المقيم في أستراليا بصورتين إحداهما تشرح القلب والثانية تدميه. الصورتان لطريق صنف على أنه من أجمل طرق العالم، حيث الشارع الطويل المتعرج يمخر عباب غابة يانعة تعبق بالخضرة. والأخرى لذات الطريق بعد أن أجهز عليها الحريق الأخير، وتركها رمادا تذروه ريح لاهبة.
لم يلتفت العالم المنشغل بحرب الوعيد الناشبة بين إيران والولايات المتحدة عقب مقتل سليماني في بغداد. لم يلتفت العالم إلى هذه الكارثة الإنسانية التي تحرق غابات القارة الاسترالية في النصف الجنوبي لأمنا الارض. هذا عالم لم يعد يأبه بنقاء الحياة، ولا بأكسجينها ولا بإخضرارها. هذا عالم مغرور يكتنز بالقسوة ويفتقد إلى روح المسؤولية والتضامن. هذا العالم لربما ينفق ويهدر ترليونات الدولارات على قنابله وصواريخه وأسقامهم وحروبه وكروبه، ولكنه يبخل ويشح بمد يد المساعدة لإخماد حريق ستطول أضراره شامل كوكبنا المنكوب.
قبل أيامك شاهدت مقطعاً مصورا لحيوان الكنغر، وهو يلاكم بحرفية منقطعة النظير. كان ماهراً في تسديد الضربات الصاعدة والنازلة والجانبية والخاطفة، وكان أمهر في توجيه الركلات الأمامية المزدوجة، لما يستند على ذيله العجيب. حينها حكمت على الكنغر بالقسوة واللؤم والعدوانية وحب العنف وغياب الرحمة، رغم أن البشر يسمون الملاكمة بالرياضة النبيلة.
لكن المشاهد المسربة من بين دخان ولهيب نيران الحرائق الاسترالية جلعتي أعيد النظر بالكنغر العزيز الذي تسرعت بالحكم عليه. فثمة صورة تقدر بمليون كلمة جاءتنا من هناك. صورة لكنغر يحتضن آخر أصغر منه حضنة تمتلئ بالرحمة والشفة والحنان والمحبة والتضامن. حضنة يجب أن تكون مدرسة لنا.
بعض البشر لا يعجبهم أن يتعلموا من هذا الكنغر الشفوق إلا إستراتيجيته في كيل اللكمات والرفسات. وسيعجبهم أيضا أن يقتبسوا من طائر الحدأة الإنتهازي، الذي اتهم بتوسيع رقعة تلك النيران وانتشارها. فهو وبسبب جشعه وبحثه عن مزيد من الفرائس المشوية يعمد إلى إلتقاط الأغصان المشتعلة ليرميها في الحقول الجافة، وعلى الأشجار لتشتعل نيران أخرى. فمتى نقتل الحدأة في داخلنا. ومتى يتكنغر الإنسان؟