أنا شارع سليمان ولدت في العبدلي، قلب عمان ومركزها الجغرافي حيث مجلس الأمة وقصر العدل ومسجد الملك المؤسس والكثير الكثير من الوزارات والمكاتب الحكومية، العسكرية منها والمدنية وعدد جيد من السفارات، ولدت في قلب عمان وسمعت من رجالها ونسائها ورأيت من أحوالهم ما لم يره أو يسمعه أحد، قد أنساهم جميعا الا أسل، شاهدت عمان تكبر وتتغير كما كبرت أسل وتبدلت.
زارتني أول مرة لتشاهد حفل تنصيب الملك حسين، أحبتني وأحببتها، كانت تزورني كل يوم في طريق عودتها من المدرسة، تتبادل هي وصديقاتها أخبار العدوان الإسرائيلي المتكرر على القرى الحدودية ومخافر الشرطة والمزارعين والرعاة، تتحدث ببراءة الأطفال عن الملك الشاب وعن رحيل أبي حنيك (كلوب باشا) وتعريب قيادة الجيش والعدوان على مصر وجمال عبد الناصر وصوت القاهرة الصادح من دمشق، كانت تكرر أحاديث الكبار بسذاجة وحماسة الصغار.
أول حب في حياة أسل كنت أنا شاهدًا عليه، لطالب يكبرها بسنوات قليلة كانت تراقبه من بعيد وهو يهتف ضد حلف بغداد، كان حباً عذرياً، اعتاش على استراق النظرات والهيام بالأغاني في ساعات المساء، وقد يكون حبًا طفولياً من طرف واحد ايضاً، فصاحبنا اختفى بعد نسكة ١٩٦٧ ومثل عمان اكتسى وجه أسل بالحزن لفترة طويلة.
في عام ١٩٦٩ كانت أسل تعيش علاقة حب جدية مع عمار، فتى قومي لم يفرق كثيرًا بين حبيبته وقضيته، كنت وأنا استمع لحديثهما أظنه وجد في أسل تجسيدًا لكل ما يؤمن به وجد فيها كل رومانسية الثورة والكفاح لكنه لم يجد أسل، وهي كانت مفتونة بمغامراته عبر خطوط الهدنة وبكلماته النارية التي يمتد فيها النصر لينشر خيمته من النهر الى البحر، رحل عمار عن عمان وأسل بعد سنة في أيلول مع آخر صدى لطلقات الرصاص وصرير الدبابات المدافع وحماقة السياسيات العربية كلها.
دخلت أسل الجامعة الأردنية ولم تتوقف عن المجيء اليّ، فقد كانت مخطوبة لابن عم لها يعمل في السلك الأمني، كان مظهر البدلة العسكرية المخصصة ليوم الخميس يعجبها جدًا، كانا يتمشيان بالقرب من قيادة الامن العام ويمضي الوقت وهو يحدثها عن أحلامه وعن الدولة الأردنية ومؤسساتها وقوائم التنقلات والاعارات وتبادل الخبرات، كان هذا عصر بيروقراطية الدولة بامتياز، كثر الحديث في تلك السنوات عن الأردن وقل عن غيره كانت خطبة أسل خريفًا هادئا بين شتاءين، تزوجا في نهاية الثمانينات قبل قرار فك الارتباط بين الضفتين بقليل، استمعت هي للقرار وتذكرت عمار وصبي حلف بغداد.
باغتت حرب الخليج والأزمات الاقتصادية وانهيار الدينار مخططات الجميع بغد ربيعي مشرق، اشتد الخطب على الناس ولم أرَ أسل الا ومعها طفلها الأول وهي تحمله تائهة بين أفكارها في منتصف التسعينيات، تفكر بالسلام مع العدو ووعود الرخاء الاقتصادية، وقفت على باب مجلس النواب، أنا وهي كنا نستمع لتلك الجلسة التي صوت فيها ممثلو الشعب لصالح السلام، كانت تريد أن تعلن رفضها وغلبتها فكرة انتظار الرخاء القادم غير المسبوق.
كبرت أسل ومضى بها العمر، ولم يعد يشغل بالها منذ وقت طويل الا ميزانية المنزل والتدبير في توزيع الراتب ليتبقى منه بضعة دنانير تستر آخر أيام الشهر الطويل، هذا غير تكاليف المدارس الخاصة الرديئة وهندام العيد، وغيره من هموم الطبقة الوسطى المترنحة نحو الفقر تقترب منه عاما تلو عام.
كانت أسل تزورني مرة أو مرتين في السنة، وكنت انظر واستمع لأولادها وزوجها المتقاعد الذي افتتح مكتبًا متواضعًا للمحاماة، كلما كبر أولادهما عرفت عنها شيئا جديدًا لم تكن تبالي بإخباري به سابقًا، ففي مرة عرفت لأي المحافظات تنتمي عائلتها، لان ابنها الأكبر كان يترنم بأغنية تمجدهم من دون الناس حتى الأردنيين منهم، وفي مرة أخرى عرفت اسم عائلتها الممتدة لان ابنها الاخر كتب على قميصه ما يرفع قومه فوق الخلق وطلب من أحد المشاكسين قراءة العبارة حتى يعلم الشقي على أي مقام رفيع اعتدى.
كبرت أسل التي تسكن في بيت شيده زوجها فوق بيت ذويه، لتتزوج ابنتها من موظف في القطاع الخاص يستأجر شقة على أطراف عمان، ويلبس بدلة لا تشبه بدلة الخميس العسكرية بأي شيء، كبرت أسل واختار أولادها الغربة لزامًا، بحثاً عن أي وظيفة عزت على طالبيها في الوطن، مات زوجها وبقيت هي تزورني، لكن من دون أن تستمع لضوضاء النواب والوزراء والساسة، فساسة اليوم هم موظفون تعرفهم أسل جيدًا، لم يعد يعنيها مرض الاقتصاد وآلام الإدارة العامة وترهل القطاعات الحكومية، فهي تثق بالله ولا تثق بالحكومة.
جلست أسل على رصيفي في آخر زيارة لها لي، نظرت بحزن الى كل شيء، كأنها لا تريد أن تصدق كيف حصل كل هذا، همست لي: رحل الجميع ولم يبقَ غيري والكثير الكثير من الضوضاء.