ربما _ وخلال مسيرتي المتواضعة _ لم أعتد الكتابة بهذا النمط، ولا سيما أن الأمور قد تجري على غير رسلها في مثل هذه المواضيع التي يشكل الوطن فيها جوهر الحديث...!
بدأت حكايتي قبل أن أسافر إلى الصين ضمن مجموعة من الشباب من دول مختلفة، كنت قد عقدت النِّية على السفر إلى ثلاث دول من أجل العمل، ومهما كلَّف الأمر: الإمارات، والسعوديَّة، والكويت، ربما هذه الدول بالذات لأنني وجدت من يعينني على العمل فيها بمبلغ يكفيني وأسرتي الصغيرة...الفقر والحاجيات الأساسية والدراسة أثقلت كاهلي وجعلتني في حيص بيص مع البنك الإسلامي الذي يأخذ معاشي طواعية مني!! ولا سبيل إلا إلى ذلك...
كانت الفكرة ثقيلة علي، ومؤلمة لأبي وأمي وإخوتي، فأن تتخلى عن كل هؤلاء ليس بالهين اللين!! وحتَّى لا أطيل الحديث كانت وجهتي إلى الصين في تشرين الأول من العام 2019، كنت أحمل في جُعبتي الكثير من الأفكار، وكنت كلما قابلت شخصا بادرني بـ (استمتع)، وأنا أحاول جاهدا ذلك ما استطعت إليه سبيلا...!!
في الصين ستدرك أن الحياة ليست كما نراها ونعيشها، جنان الله في الأرض، وستدرك أن الكون أكبر من أن تتخيله العقول البشرية، وستدرك أننا لا زلنا نطمح أن نكون في ركب التقدم والازدهار، وستدرك أن هذا الشعب حمَّال، وأنك كنت شيئا لم ترده يوما...هكذا بدت لي للوهلة الأولى..
وحتى لا أكتمكم سرِّا لم يغادرني الوطن لحظة واحدة _ وهنا سأكون محبا كما يجب أن أكون _ حاولت ورغم كل هذا الجمال أن أفلته ولو لبرهة، لكنني لم أستطع!! بدأت أترجل من قافلة القلوب المحملة بالعشق والحب ووووو ولم أستطع...تذكرت الفقر والجوع والألم ولم أستطع...أخذتني ذاكرتي إلى فقر جامعة الحسين ومؤتة، وأنا قطع الكيلو مترات من مؤتة إلى الطفيلة؛ لأنني لا أملك أجرة الحافلة _ وهذا ليس بالبعيد _ لكن دون جدوى!!! ولأنني أدرك معنى أن تخرج بشيء، وأن مثل هذه القرارات مصيرية، عرَّجت على (أيسر) وكيف أنني لم أستطع شراء ملابس العيد له، لكن أيضا دون جدوى...وحتى أخرج من هذه القوقعة وضعت طعامي وشرابي على طاولة أفكاري وكيف أنني بت عاصب البطن ليال طوال، وأن ذلك الشقي كان يتعذر لي بأنه لا يريد (المصروف) لأنه أكل (الزيت والزعتر) صباحا، وأنا أشيح بوجهي ونظري وسمعي عنه، وأعود بأفكاري خالي الوفاض إلا من وطني...
سيبدو الأمر لبعضهم أن لا منطق في ذلك، وستتعدد الأفكار وتختلف الرؤى، علما أنني ممن كان يردد كثيرا " سافر تجد عوضا عمن تفارقه " لكن عدولي عما كنت أفكر وأدعو هو قُبلة اعتذار على جبين الوطن...
في وطني (الأردن) حرسه الله تعالى، ستجد كل شيء ينبض جمالا!! فقط حاول أن تكون محبا وجميلا!! في كثير من الأحايين علينا أن نقدِّم بعض التنازلات، خاصة إذا خُيرت بين الأب والأم والوطن، وبين المال...!! فأنا لم أعد أريد مالا؛ لأنني وجدت وطني...
لم أنقطع عن التواصل مع أسرتي والأحبة خلال تلك الفترة، لكنني أذكر جيدا وجه أبي وابتسامته عندما أخبرته أنني لن أغادر الوطن للعمل ولو أصبحت غنيا بالمال، فهناك أشياء لا تشترى: ضحكة أبي، وابتسامة أمي، ووطني...
ولأنَّ كل الأشياء الجميلة الفاتنة التي نراها خارج حدود الوطن تموت سريعا فإنني عدت محملا بالطاقة والعمل، وعدت أدرك إدراكا لا عدول عنه أنَّ الجمال نحن من يصنعه، ونحن من يوجده، فحاول أن تكون شيئا جميلا كما داخلك...
حماك الله يا وطني...