مع بداية العام الجديد تفاجأنا ( هل تفاجأنا حقا..؟!) باربع جرائم بشعة هزت مشاعرنا وابداننا، لا اريد ان ادخل في تفاصيلها، لكن اول سؤال ربما خطر على بالنا هو : لماذا فعلوا ذلك..؟ مهما تكن الاجابة فانها لن تكون كاملة او مقنعة لكن الاهم من هذا السؤال هو الظاهرة نفسها، فقد تكررت مثل هذه الحوادث في مجتمعنا، وتعددت اسبابها، لكن النتيجة واحدة وهي : هذه القسوة التي دخلت الى بيوتنا لدرجة الكراهية والقتل، كيف تسللت الى مجتمعنا، فأفقدتنا الاحساس بالرحمة، والشفقة والعطف، وجردتنا من انسانيتنا حتى لم نعد نرتعد امام هذه النماذج السلوكية المفجعة، وكأنها اصبحت جزءا من حياتنا او ضريبة ندفعها – كما ندفع غيرها – دون ان يهتز لنا طرف؟
ان قسوة هؤلاء الذين دفعتهم انحرافاتهم النفسية او اضطراباتهم العقلية او ظروفهم الاقتصادية الى فعل ما نستنكره، لا تقل – ابدا – عن قسوة المجتمع الذي خرجوا منه وعليه، كما ان خيبتنا بهم لا تقل – ايضا – عن خيبتهم بنا، واذا كانوا بحكم التشريعات والاعراف قد اصبحوا مجرمين يستحقون العقاب، فان جريمتنا بحق السكوت على «التربة» التي اخرجتهم والمقدمات التي استقوا منها ما آلوا اليه من نتائج، لا تقل بحال عن جريمتهم.
لقد اخطأ هؤلاء حقا، ولكن هذا الخطأ كان انعكاسا لحالة نفسية ومزاج عام مضطرب يعاني منه مجتمعهم، او هو – ان شئت الدقة – احد التعبيرات الصارخة والشاهدة – في آن – على توعك المجتمع واعتلاله، اما كيف حدث ذلك، فاننا لا نعدم من يدلنا على المحطة التي انطلق منها الانحراف، وتولدت فيها التعقيدات والامراض النفسية والعقلية، وهي – على كل حال – تتجاوز الفرد والاسرة، بل والمجتمع ايضا، لتشمل منظومة طويلة من المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية التي خرج منها كل ما نعانيه من اضطرابات وتشوهات.
صحيح ان احدنا يشعر بالاشمئزاز والغضب والاستنكار من هذا الذي يفعله شاب مجنون، او ام ظالمة، او والد مريض.. الخ بحق اقرب الناس اليه، لكن ثمة شعورا غائبا بالشفقة على هؤلاء الضحايا لا بدّ من استحضاره، ومعه دعوة الى قراءة اعماق المجتمع الذي افرزهم، بكل ما فيه من توعكات وشقوق واورام، واحسب انها مهمة تستدعي من الباحث النفسي (دعك من السياسي والاقتصادي) مزيدا من التأمل، لا مجرد الادانة واصدار الاحكام والشعور بالشفقة والاشمئزاز.
ثمة من يربط بين العنف وبين الاحباط وتراجع الاحتكام لمنطق «القانون» وسيادة الانتماءات الفرعية على حساب «الهوية» الجامعة، وهذا يبدو صحيحا لكنه لا يكشف عن حقيقة المشكلة وجذورها فهنالك ارتباط -مثلا – بين العنف وبين الثقافة السائدة وبينه وبين مخرجات السياسة وانسداداتها وبينه وبين البحث عن الهيبة والكرامة وبينه وبين تراجع الدخل وانتشار الفقر وبينه وبين افتقاد شبكة «تعليمية» ناضجة، وشبكة مفاهيمية صحيحة تنتج «تدينا» صالحا للحياة، وشبكة اجتماعية لا تخضع «لمزادات» السياسة وتجاربها.
(الدستور)