كانت الساعة يومها تشير الى الرابعة عصرا، أمشي وحيدا في مول كبير، حتى سمعت صوتا مرتفعا ينادي علي دون ذكر اسم، قائلا لي لو سمحت أريد الكلام معك.
توقفت، وإذ به شاب في الثلاثينيات تقريبا، نظر إليّ مثنى وثلاث ورباع، كان يتأملني مع ابتسامة طفولية ساذجة ترتسم تحت شاربه الممدود بعناية، وأنا أسأل نفسي عما حصل للرجل، وكنت اظنه لوهلة قارئا مفتونا، او متابعا لبطولاتي على شبكات التلفزة، او شطحاتي على وسائل التواصل الاجتماعي، فنفخت صدري فخورا، لأن المؤكد ان الرجل من أتباعي المنثورين في العالم الواقعي والافتراضي، هكذا أظن كل مرة يتفحصني فيها احدهم بعينيه.
فجأة، سألني الشاب.. ألست يا حاج، الحلاق الذي كان يحلق لي في الصالون في صويلح حين كنت في الابتدائية، وكنت دوما أغفو بين يديك. كأنه سكب ماء باردا على وجهي، فهو يظنني الحلاق الخاص به في طفولته، ولا يعرف شيئا عني ولا عن اسمي وفخري وزهوي ومهنتي، فتحولت فجأة من طاووس، الى دجاجة مصابة بالشلل في ذلك المول الكبير.
أجبته مبتسما نعم أنا الحلاق ذاته، مشتاق لك. سلّم علي بحرارة واطمأن علي، وسأل عن أحوالي، فقلت له فتحت ثلاثة فروع جديدة لصالوني، فلا تنسى أن تزورني. لك خصم خاص. سلم على الوالد. صافحني مجددا وغادر، وذهبت الى أقرب مقهى مستسلما، صامتا، متأملا، باحثا عن جانب فلسفي في القصة، او قل اللطمة المباغتة ساعة العصر في عمان ؟.
لا ادري لماذا تذكرت لحظتها أرشيف الصحف الورقية، اذ كنت دوما احب ان اعود الى الصحف القديمة، من الخمسينيات او الستينيات، هنا اعلان عن المطرب أبو لمعة، وحفله الذي سيأتيه الآلاف في عمان او رام الله، وهنا خبر عن وزير خارجية دولة عربية يهدد ويرغي ويزبد، وهنا اعلان عن تذاكر سفر من عمّان الى القاهرة ببضعة دنانير، وهناك كاتب صحفي اقام الدنيا ولم يقعدها، وهذه السنون لم يبق المطرب واختفت اخبار أبي لمعة، ووزير الخارجية الذي يهدد ذهب ودولته ادراج الرياح، وشركة الطيران إياها توقفت لاحقا عن العمل، والكاتب الصحفي في ذلك الزمن لا يذكره احد، وأصبحت عظامه مكحلة في زمن الديجتال، ولا احد من كل هذه الأجيال يعرف شيئا عن بطولات هؤلاء الحقيقية او الوهمية، ولا حتى لديهم الوقت كي يعرفوا.
اكبر وهم يعيشه الانسان، وهم اللحظة، وحين ترى كثرة اليوم، تسير على الأرض، ولا كأن أحدا غيرها في هذه الدنيا، تستغرب جدا، فقد كان قبلنا من هم مثلنا، وذهبوا وذهبت اخبارهم وبطولاتهم، وكل عقد يأتيك رجال وسيدات جدد، يحرقون اخبار من قبلهم، وهذا حال الدنيا، وحال الأمم التي تفنى، ولا يبقى الا وجه الله نهاية المطاف، بحيث يتبدد اثر الانسان، وفخره وشعوره تجاه نفسه، مع نهاية عمره، او زد ذكراه لعدة سنوات بعد ذلك.
ألست الحلاق الذي كان يحلق لي في صويلح. سؤال بقي في ذاكرتي، مثل حجر سقط في بحيرة ما، فليس الكل يعرفك، ولا الكل مضطر لمعرفتك، وانت في الحياة مجرد دائرة صغيرة، يحوم حولها عدد قليل من المحبين والمهتمين، وسرعان ما تزول الدائرة، وينفض من حولها، لصالح دوائر جديدة، ومهتمين جدد، ولو تذكر كل واحد فينا هذه الحقيقة، لتواضع كثيرا، وهدأت نفسه، وتذكر انه ليس وحيدا في هذه الدنيا، وان ما يظنه إنجازا عظيما يبقى محدودا، وقد لا يعرفه غيرك، وقد ينكره غيرك، وقد ينساه فريق ثالث!.
الذي يفتح هاتفه المتنقل ويتفقد الأسماء التي لديه يكتشف ان العشرات قد رحلوا، وبعضهم كان ضجيجه يصل آخر الدنيا، وبعضهم شغل الدنيا شهرة، او كان ثريا جدا، فتقوم بشطب الأسماء خلال ثانية واحدة، وهي ملخص كل القصة، فالإنسان حضوره مؤقت ورحيله اسرع، وعليه ان يهدأ في حياته، ولا يصاب بوهم الأنا المتورمة.
(الغد)