عودة إلى سلسلة "نحو خطاب ديني متصالح"، أذكِّر بمقالي "نحن مستهدفون" المتضمن حجج القائلين بالغرب المعادي للإسلام؛ الآية القرآنية: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى…"، والحديث: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم.."، وفي الماضي: فتنة ابن سبأ، ومخططات حكماء صهيون، والحروب الصليبية، وإسقاط الخلافة العثمانية، وتقسيم البلاد العربية والإسلامية ورسم حدودها الجغرافية، لمنع الوحدة الإسلامية، وصولاً إلى العصر الحديث، حيث افتعلت أمريكا "مؤامرة 9/11" ذريعة لضرب أفغانستان، والحرب على الإسلام تحت ستار الحرب على الإرهاب، وانتهاء باصطناع القاعدة وبوكوحرام وداعش، لضرب الإسلام، والتصريحات المعادية للإسلام في الساحة الغربية من شخصيات سياسية وفكرية.
واضح من هذا العرض مدى استحكام "نظرية الاستهداف" الغربي للإسلام، في بنية الخطاب الديني، وتغلغلها في كافة تجلياته: منهجاً تعليميًّا، صحيفة أو كتاباً، فتاوى، أو حزباً سياسيًّا… لكن كل هذه الحجج لا وزن لها، في ميزان التحليل والنقد والتقييم، أما الآية الكريمة، فهي خطاب لرسولنا عليه الصلاة والسلام، يعبر عن واقع علاقة الصراع الديني بينه وبين أهل الكتاب الذين كانوا يعادونه، ولا محل للآية في علاقات اليوم بين المسلمين والغرب، فلا الغرب (العلماني) اليوم، يدعو أحداً من أبنائه إلى ملته الدينية، فضلاً عن أبناء المسلمين، بل المسلمون هم النشطون في دعوة الغربيين إلى ملتهم، عبر المراكز الدينية، والدعاة التي نرسلهم إليهم. أما الحديث، فهو من قبيل الإنباء بالغيب، والرسول بنص القرآن لا يعلم الغيب، وهذا يضعف حجيته، أما فتنة ابن سبأ فلا سند تاريخيًّا لها، وبرتوكولات صهيون، المخابرات الروسية وراءها، والحروب الصليبية ماض انقضى، أما الحدود الجغرافية المرسومة، فهي حدود تاريخية، منذ أيام العباسيين، والاستعمار الغربي قننها، ولم يخترعها والخلافة العثمانية سقطت بفعل عوامل داخلية، والعمل الإرهابي الكارثي الذي ضرب أمريكا، من فعل أبنائنا الأشقياء الذين تفاخروا به، والقاعدة وأخواتها نبت بيئتنا، وإفراز لخلل أوضاعنا، وأعراض لأمراضنا المزمنة، وثمار ما زرعناه في التربة المجتمعية: استبداداً وعنفاً وتطرفاً وكراهية، أما تصريحات كراهية الإسلام، فمن الخطأ تعميمها.
الماضي الاستعماري، لا ينبغي أن نظل أسرى مواريثه، وإذا كنا اكتوينا بشرره وشروره، فنحن لسنا بدعاً بين الأمم التي اكتوت بها في العصر الاستعماري (اليابان ضربت بالنووي، والصين خربت وتعرضت لمجازر وحشية في حروب الأفيون 1839-1860) وعلينا تجاوزه كما تجاوزوه، فنحن أبناء اليوم، والغرب، اليوم، هو الذي يفتح أبوابه وجامعاته ومراكزه البحثية لأبناء المسلمين؛ طلاباً وباحثين ولاجئين ومهاجرين، سائحين ومستثمرين، ودعاة مبشرين بالدين.
إنصاف الخصم منهج قرآني، وعلى الخطباء والدعاة والوعاظ أن يراجعوا تصوراتهم عن الغرب، وفق منهج نقدي موضوعي، يذكر ما للآخر وما عليه، مقتدين بقوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا".
الغرب لا يعادي الإسلام ولا المسلمين، الغرب هو الذي يفتح أبوابه لنشر الإسلام، آلاف الدعاة المسلمين يغزون الغرب للدعوة لدينهم، يستميلون أبناءهم، ويتزوجون بناتهم، ونحن لا نعاملهم بالمثل!! المسلمون في أوروبا وأمريكا يتمتعون بكامل حقوقهم وحرياتهم الدينية والمدنية والسياسية، وكانوا في أوطانهم، أذلاء مستضعفين، لكنهم، هنا، يستعيدون إنسانيتهم وكرامتهم المفقودتين، فيصبحون ناشطين: يقيمون المساجد، وينشئون المراكز والمدارس الإسلامية، بالآلاف، بريطانيا وحدها، تضم أكثر من ألفين مسجد، يشترون الكنائس لجعلها مساجد، دون نكير، لنتصور، مجرد تصور، تحويل مسجد إلى كنيسة في دولة إسلامية، ألا تقوم القيامة ؟! هنا، يرتفع أكبر المآذن على نهر الراين، في مدينة ( مانهايم ) بدون غضاضة.
الإسلام، اليوم، هو الدين الأكثر انتشاراً في الغرب.
أخيرًا.. على الخطاب الديني، تجاوز الخطاب المعادي للغرب، والتحرر من مواريثه؛ إذ لا يمكن تجديد الفكر الديني، وتطوير أوضاعنا، إذا استمر العقل الإسلامي، غارقاً في أوهام وهواجس الفكر التآمري، علينا تبني خطاباً دينياً يعتمد لغة المصالح المشتركة في العلاقات الدولية.. وللحديث بقية.