أحاول هنا أن أكون منصفاً لروسيا ولأوكرانيا الجارتين الشقيقتين، وبكامل عمقهما السوفييتي السابق، وبحاضرهما المعاصر بعد انهيار اتحادهما، واستقلالهما عن منظومتهما التاريخية الواحدة عام 1991. وشخصياً لي ذكريات طيبة في كل دولة منهما في زمن الدراسة الجامعية، وبحكم الترحال إلى هناك، وحتى اللحظة. وللدولتين علاقات دبلوماسية استراتيجية ناجحة مع بلدي الأردن، وسفارات لهما، هنا في عمان، وهناك في موسكو، وكييف. وأنا شاهد عيان على تداخل، وامتزاج اللغتين الروسية، والأوكرانية في مدينة(روسوش) الروسية القريبة من الحدود الروسية الأوكرانية بمسافة حوالي 40 كيلو متراً مثلاً، وهي المدينة التابعة لمحافظة فارونيج، التي تبعد عن موسكو العاصمة جنوباً نحو 800 كيلو متر.
وانسانهما كما ألاحظ طيب وبسيط، وانسجام في السياسة بين نظاميهما حتى حقبة زمنية ليست بعيدة قبل عام 2014، فما الذي جرى بعد ذلك ليسود التشنج السياسي والإعلامي بينهما؟ ولا ننسى هنا بأن روسيا دولة عظمى لا توازيها في قوتها العسكرية إلا أمريكا، وبأن أوكرانيا من الدول السابقة المنسلخة عن الاتحاد السوفييتي، والمستقلة كما روسيا، والمحسوبة بعد انقلابها عام 2014 على رئيسها الموالي لموسكو فيكتور يونوكوفيج. على الاتحاد الأوروبي كما رغبت، وعلى حلف (الناتو) الغربي العسكري بقيادة أمريكا، وتعمل وبجهد التيار السياسي والاقتصادي "البنديري" المتطرف لديها، وساستها الجدد على الانشطار سياسياً واقتصادياً عن موسكو، رغم حاجتها وشعبها لمادة (الغاز) الروسية الهامة لغايات التدفئة وإدارة المصانع، وبالرغم من أن شرق أوكرانيا (الدونباس) متلاحم مع روسيا جغرافياً، وديموغرافياً، وفي اللغة الروسية، وفي الدين المسيحي الأرثدوكسي أيضاً، وامتداد روسي، وشرق أوكراني يصل إلى منطقة إقليم القرم / الكريم، فماذا هناك؟
إن ما لفت انتباهي ودفعني للكتابة في شأن إقليم القرم مجدداً هو مشاهدتي عبر الاعلام الروسي الفضائي المتلفز، وعبر قنوات (24), (AR-Arabic), (1) لرئيس الفدرالية الروسية فلاديمير بوتين بتاريخ 26 كانون أول 2019، وهو يدشن خط قطارات بلاده الجديد وقوفاً باتجاه مدينة سيفاستوبل بالقرم كما الفارس في مقدمة خيوله التي تصهل اعتزازاً بالانجاز الجديد بعد وعد أكيد، وعلى مسافة فوق البحر الأسود بلغت 19 كيلومتراً، وهو القادر على نقل 14 مليون إنسان، وحجم من البضائع يصل إلى 13 مليون طن، وهو المشروع الأطول على مستوى أوروبا.
وتأتي الخطوة البنائية الروسية الكبيرة هذه، وهي الرابطة بين روسيا وقرمها حسب قراءتها التاريخية، والقانونية، وعبر ديمقراطية صناديق الاقتراع في الإقليم، وبنسبة مئوية وصلت إلى 95%، بعد مسافة زمنية قليلة فصلت بين لقاء باريس بتاريخ 9 كانون الأول هذا الشهر، والذي جمع رؤساء روسيا (بوتين)، وأوكرانيا (زيلينسكي)، وفرنسا (ماكرون)، ومستشارة ألمانيا (ميركيل) بخصوص الأزمة الأوكرانية برمتها، ومنها القرم، واتفاقية مينسك (1+2) التي طالبت أوكرانيا من خلاله بتعديل الاتفاقية، وبعودة القرم لأوكرانيا، بينما شدد الرئيس بوتين فيه على حرفية تنفيذ (مينسك) الضامنة للسلام الأوكراني – الأوكراني غرباً وشرقاً، ولم يُعر انتباهه للمطالبة بالقرم من قبل الجانب الأوكراني عبر رئيسها زيلنسكي.
وبالمناسبة أوكرانيا وعبر إبحارها الدائم في شأنها السيادي دائمة الاحتجاج على زيارات الرئيس بوتين المتكررة للقرم، وترسل برقيات هادفة لوزارة الخارجية الروسية، وأصوات من الداخل الأوكراني الغربي غاضبة، ومطالبة بمحاصرة الإنجاز الروسي الأخير هذا عبر شبكة القطارات، وقبلها من خلال تطوير البنية التحتية، ومنها السياحية في القرم.
ومحاولات لأمريكا احبطتها روسيا من خلال اقناع (كييف) بالمطالبة بإعادة الاقتراع حول إقليم القرم، وتوسيع رقعته لتشمل كل أوكرانيا، وهو الذي لم يحدث ويصعب تطبيقه على الأرض.
والملاحظ هنا، وجود فجوة سياسية معاصرة (modern political GAP) بين (موسكو) و (كييف) يصعب ترميمها، وبعد عام 2014 تحديداً أصبحا يشكلان خطين متوازيين لا يلتقيان مباشرة أبداً.
وفقط هي المعارضة الأوكرانية البرلمانية ممثلة بالنائب (بويكا) مثلاً قادرة على الحوار الأوكراني الروسي المباشر وفي مجال استيراد الغاز، والنظام الأوكراني السياسي الحالي برئاسة فلاديمير زيلنسكي يفضل لقاء موسكو بوتين عبر الهاتف، أو في منطقة محايدة مثل باريس، وقبله الرئيس السابق بيترو باراشينكا كان يفضل اللقاءات الأوكرانية السياسية الروسية عبر وسيط، وفي منطقة محايدة أيضاً مثل بيلاروسيا، ثم وصل حواره مع موسكو إلى ريق مسدود، وأصل فتحه بالهاتف، وعبر لقاء باريس الجماعي الرئيس الحالي زيلنسكي.
وجهة النظر الأوكرانية بقيادة ساستها المعاصرون بالنسبة للقرم هو أنه كان أوكرانياً في الزمن السوفييتي منذ عام 1954 في عهد الزعيم نيكيتا خرتشوفن واستمر أوكرانياً في العهد الروسي بعد الاستقلال من عام 1991 وحتى عام 2014، إضافة إلى دور معدي الانقلاب على الاتحاد السوفييتي مثل بوريس يلتسن، وليونيد كرافتشوك بالإبقاء على القرم بحوزة أوكرانيا وقتها مقابل سحب السلاح النووي من أوكرانيا وبلاد السوفييت ليبقى في روسيا فقط، وبحكم أن تداخلاً حصل في الحقبة السوفييتية بين كل ما هو روسي وأوكراني. والتاريخ القديم المعاصر ذات الوقت ينصف روسيا، ويؤكد شرعية السيادة الروسية على القرم منذ القرن الثامن عشر، وتمتع بحكم ذاتي تحت مظلة الجمهورية الروسية الاتحادية بين عامي 1921 و 1945.
وعمل الزعيم جوزيف ستالين على إلغاء الحكم الذاتي للقرم، ونقل خرتشوف ملكية القرم من العهدة الروسية إلى السوفييتية مؤقتاً إلى أوكرانيا لأسباب اقتصادية، وبهدف الوصول إلى المياه الدافئة، وكان الأسطول العسكري النووي السوفييتي بقيادة روسيا راسياً في عمق التاريخ على ضفاف القرم وسط البحر الأسود في مدينة سيفاستوبل منذ عام 1696 في زمن القيصر بطرس الأول وبأمره.
وبقي الأسطول الروسي في مياه القرم وفق معاهدة 1991، وكانت روسيا تدفع لأوكرانيا مبالغاً كبيرة مقابل بقاء الأسطول في المياه الأوكرانية وقتها، وتم تمديد وجوده حتى2042.
وعمل الرئيس بوتين على إعادة القرم عام 2014ن بعدما لاحظ بأن أوكرانيا بارشينكا بدأت تنشطر تدريجياً عن جارتها روسيان وعن عمقها السوفييتي السابق لصالح تسجيل نقاط لصالح الغرب الأوروبي وأمريكا، وحلفهما العسكري (الناتو)، فحرك صناديق الاقتراع في القرم، واستند على دستور روسيا، ومجلس (الدوما) البرلمان والأعيان، وعلى قرار القصر الرئاسي في موسكو (الكرملين)، وواصل إعادة بناء القرم بعدما غاب البناء عنه في الحقبة الأوكرانية.
وأخذت موسكو بعين الاعتبار الحضور الروسي في القرم بنسبة 58% مقابل وجود أصول أخرى أوكرانية، وتترية، وتركية، وأوربيكية، ومراهنة أوكرانية وسط ساستها الجدد على عودة القرم لأوكرانيا بعد عهد بوتين، وهو المستحيل حصوله لتحوله إلى خطوة استراتيجية روسية هادفة دائمة.