الرفاعي بين الجوقاد و الكايزن
نسيم الصمادي
14-12-2009 01:50 PM
"الجوقاد" مصطلح استخدمه خبراء الاقتصاد والإدارة الهنود للتعبير عن منهجية جديدة في الاستثمار والإنتاج والمنافسة ومعناه ببساطة: "إنجاز الكثير بالقليل"، فهو ابتكار اقتصادي تلجأ إليه الدول والمؤسسات عندما تشح الموارد وتشتد الأزمات، لحل المشكلات في ظل غياب الأدوات، فتكون النتيجة حلولا تفي بالغرض، دون معونات خارجية أو منح رأسمالية، وبأقل القليل من القروض الداخلية. فهو ابتكار إداري تقشفي يطبق مقولة "الحاجة أم الاختراع" دون ملاحقة الموضات واستنفاد الثروات.
المؤسسات التي تطبق "الجوقاد" لا تهدف إلى تخفيض التكاليف فقط، بل تمارس الإدارة الخضراء فلا تفرط في الشراء، وتؤكد مسؤوليتها المجتمعية كي لا يعيش الجيل الحالي على موارد الجيل التالي؛ فتوفر في الطاقة وتحافظ على البيئة وتثقف الموظفين والمواطنين على فلسفة الجوقاد ليدركوا أنهم لكي يأكلوا يجب أن يعملوا، ولكي "يتبغددوا" يجب أن يجتهدوا.
على المستوى العالمي بدأت شركات عملاقة مثل "سيسكو" و "أوراكل" و"جارتنر جروب" وبنك "جولدمان ساكس" تطبق "الجوقاد" مستفيدة من التجربة الهندية التي حولت مضخات المياه اليدوية إلى محركات تدفع عربات النقل البدائية. الغزيون أيضا حولوا محركات السيارات لتعمل بالزيت بدلا من الوقود، والبرازيليون خففوا أوزان الطائرات لتنقل الحمولات الكبيرة بمحركات صغيرة، والمهندسون العراقيون والاقتصاديون السوريون والكوريون كلهم اخترقوا الحصار وشح الموارد من خلال "الجوقاد". ورغم أن الدول المضطرة والمحاصرة هي التي أبدعت في الجوقاد، إلا أنه ليس مصطلحا اشتراكيا. بل هو طريقة عمل إبداعية تقوم على التلقائية والبساطة لاستثمار الموارد المتاحة. ففي الهند يستخدم الجوقاد والدولة كلها تتجه من اليسار إلى اليمين، وبدأت أمريكا تتعلم طريقة الجوكاد بسبب الكارثة الاقتصادية، وهي – أي أمريكا – تتجه من اليمين إلى اليسار إن صح التعبير. فالجوقاد منهجية إدارية محايدة، رسالتها الإبداع على أرض الواقع.
مهندسو الهند حولوا الابتكار التقشفي إلى منهجية وأدوات إنتاج ينافسون بها الغرب والصين، لينتجوا الذهب من الخردة، والصواريخ من بقايا التكنولوجيا الروسية. الدرس المفيد هو أن الدولة الفقيرة التي ظلت تعتمد على المساعدات حتى مطلع الألفية الثالثة بدأت تمول أوروبا وتعلم أمريكا فنون الإدارة، حيث احتل أربعة هنود أماكنهم في المراكز العشرة الأولى لمؤلفي كتب إدارة الأعمال على مستوى العالم عام 2009.
وحيث يبرع الهنود بالجوقاد، فقد سبقهم اليابانيون إلى قيادة اقتصاد العالم من خلال "كايزن". وحين استمرأ اليابانيون طعم النجاح ومالوا إلى الدعة والفخامة، وبناء القصور وإطلاق البخور ونسف القدور، أي حينما ابتعدوا عن الجوقاد، بدأت معدلات الباطلة في الدولة العظيمة ترتفع، وبدأت الديون تتراكم، ومال الإفلاس إلى الإشهار، وزادت معدلات الانتحار.
بالمقابل نجد دولة صغيرة وهي مدينة معزولة في جزيرة تسمى "سنغافورة" طبقت "الكايزن" ليس في أعمالها فقط، بل وفي إدارة حكومتها، وذلك بقيادة البارع الرائع رئيس الحكومة طويل المدى "لي كوان يو" أو قائد أوركسترا الإدارة الحكومية دون منازع. كان "لي كوان يو" قائدا لحزب العمل الشعبي، وعندما خسر حزبه الانتخابات عمل نائبا لرئيس الوزراء الفائز "جو تشوك تونج"، ثم شغل منصبا فريدا ليس له مثيل في العالم وهو مرشد أو موجه وزراء سنغافورة، أي معلم الوزراء؛ الجدد منهم والقدماء.
يقول "لي" في كتابه "سنغافوة والتحول من العالم الثالث إلى الأول": "العلاقة التي تربطني بالوزراء علاقة صداقة استمرت أربعة عقود ... فالتزامنا بقضية مشتركة، هي "سنغافورة" كان التزاما عميقا، وكانت لدينا قناعات راسخة، ولولاها لما خاطرنا بالتحدي والصعود والصمود. تشكلت الأواصر القوية التي تربط بيننا خلال الصراعات الأولى التي أوشكت فيها القوى العارمة التي واجهناها أن تعصف بنا. لقد أبقينا على الخلافات حول السياسة في حدود مجلس الوزراء حتى استطعنا حلها والوصول إلى قرارات إجماعية، ثم وضعنا خطا واضحا ليفهمه الناس ويقبلونه، وبعد اتخاذ القرار في مجلس الوزراء، كنا نقطع على أنفسنا عهدا ونقسم بأن نلتزم به".
"نحن نعلم نقاط القوة ونقاط الضعف في كل منا، ولقد عملنا كفريق ناجح، وعندما اتفق الوزراء من الحرس القديم، كان بقية الوزراء ينضمون إلى هذا الإجماع، ولدي علاقة سلسة مع كل زملائي، واستطعت أن أدلي بدلوي وأن أطرح آرائي في أمور تدخل مباشرة في نطاق اختصاصهم دون أن أثير ضيقهم. ففي نهاية المطاف، كانوا يعلمون أنني سأواجه الناخبين لإقناعهم بتفويضنا لفترة جديدة ولهذا فإنني بحاجة إلى إنجاز مقنع لتقديمه."
الحقيقة إن رئاسة الحكومة لا تختلف عن قيادة فرقة الأوركسترا. فليس هناك رئيس وزراء يستطيع إنجاز الكثير بدون فريق فعال. وحتى إن لم يكن قائد الأوركسترا بالضرورة عازفا عظيما، فإنه بحاجة إلى معرفة الكثير عن الآلات الموسيقية الأساسية بدءًا من الكمان والتشيللو وحتى البوق والناي، وإلا فإنه لن يعرف ما يمكن أن يتوقعه من العازفين. قامت طريقة "لي كوان يو" على تعيين أفضل شخص في أهم وزارة حسب المرحلة. فإذا تبدلت الظروف يقوم بتبديل الوزراء دون تغيير الأشخاص، بل يغير حقائبهم الوزارية. وبعد وضع الوزير المناسب في الوزارة المناسبة كان يوضح للوزير بحزم وحسم ما يريد إنجازه، ثم يتركه يحقق مهماته. وباختصار، كان هذا العبقري يطبق مبدأ الإدارة بالأهداف، دون أن يقحم نفسه في شؤون الوزارات وتفاصيل مشكلاتها اليومية. فكان يعرف ما يكفي عن كل وزارة ويتدخل في القضايا الجوهرية فقط، وعندما يرى أن تبعات التدخل ستكون أقل فداحة من عدم التدخل، وكان "لي" دائما يقول: "تقع مسؤولية فشل الحكومة على عاتق رئيس الوزراء وحده".
لم يطبق "لي كوان يو" مناهج التحسين المستمر، أو "كايزن" على الحكومة فقط، بل طبقها أيضا على الشعب، لأنه أدرك بأن أي دولة تحتاج إلى شعب صالح لكي تشكل حكومة صالحة. فمهما كان النظام جيدا ومثاليا وأخلاقيا، فإن القادة السيئين يجلبون الضرر والأذى للشعب. فهناك مجتمعات كثيرة تدار بشكل جيد رغم ضعف وفقر الأنظمة الحكومية السارية فيها، لأن القادة الأقوياء والصالحين هم الذين يتولون السلطة. لكن إنتاج الشعب الصالح الذي يفرز حكومات صالحة يتطلب أجيالا تزرع، وأجيالا تبدع لأجيال تحصد، وهذا هو الإيثار الحكومي الذي يتطلب – تماما – غياب الأنانية بسبب عنف وعمق وشفافية الرؤية المستقبلية. ففي بلد شحيح الموارد مثل سنغافورة في الستينيات والسبعينيات، ومثل الأردن اليوم، ينبغي أن يكون القادة مخلصين وأمناء ولا يسعون لتحقيق أهدافهم الذاتية، وإلا فسوف تفشل الحكومة بغض النظر عن المساعدات والمسكنات والبيانات. وهذه عودة جديدة إلى الجوقاد الهندي. فالجوقاد يؤدي إلى الإبداع وإلى الكايزن، والعكس صحيح بنسبة مطلقة.
العامل الحاسم الوحيد الذي يؤدي إلى التغيير هو قدرة الوزراء والكفاءة العالية لموظفي الحكومة الذين يساندون الوزراء. فعندما يعين وزير ضعيف في الحكومة، فلا بد من أن يدفعه رئيس الوزراء – إن استطاع - بشكل مستمر وإزالة العقبات من أمامه. وستبقى المحصلة النهائية دائما أقل مما يمكن إنجازه. ولكن عندما نضع الرجل القوي في المكان المناسب، فإن ذلك يزيل عبئا هائلا عن كاهل الرئيس وعن كواهل الشعب. فكل ما يحتاجه مطبق الجوقاد والكايزن هو تحديد الأهداف التي ينبغي تحقيقها والإطار الزمني الذي يجب أن تتحقق فيه، ثم يترك لكل وزير مهمات التنفيذ بطريقته، فإن لم ينفذ، فإما أن "يبهدل" أو يعزل.
وفي بلد صغير ونام كالأردن يمكن دون جدال تكرار تجربة سنغافورة، فهذا طموح واقعي إذا ما قورن بمضاهاة تجربة الهند التي من المستحيل – أردنيا - تكرارها. فإذا ما ساهم في نهضتنا الرجال والنساء الموهوبون، وأطلقت الأعنة للمبدعين والجوقاديين المتقشفين المنتمين، فإنه يمكننا بالجوقاد البسيط، تحقيق كايزن العظيم. وليس ما نطلبه لو تدركون عظيم، لو خلصت النوايا، بعدما صلحت السجايا.
smadi@edara.com