أيها الأردنيون: من لنا بمثل هزّاع؟!
د. محمد أبو رمان
14-12-2009 05:27 AM
عمون - اغتنمت فرصة سفري إلى اسطنبول (في الأيام السابقة) لقراءة مذكرات رئيس الوزراء الراحل، هزّاع المجالي، الذي اغتيل في العام 1960، في مكتبه بدار رئاسة الوزراء.
الكتاب أصدرته مؤخراً وزارة الثقافة، ضمن سلسلة مكتبة الأسرة الأردنية، ويحتوي مذكرات الراحل إلى سنوات قليلة قبل مقتله، ويمثّل وثيقة تاريخية وطنية في غاية الأهمية، تحمل رواية أحد أبرز صناع السياسة الأردنية في مرحلة الخمسينيات المضطربة، التي شهدت استشهاد الملك عبد الله الأول، وانتقال السلطة إلى الملك حسين، وحراكاً سياسياً داخلياً عاصفاً ومتوتراً، بالتزامن مع أحداث إقليمية جسام.
قيمة المذكرات، سياسياً، اليوم تتجاوز الناحية التاريخية؛ إذ ترسم لنا صورة دقيقة ومهمة عن الرموز التاريخية لهذا البلد، كيف يفكرون ويتصرفون؟ ما مواصفات الزعامة الحقيقية؟ وكيف يصنع الموقف التاريخي؟
الكتاب يقدّم لنا، اليوم في الوقت المطلوب والحساس، "شخصية هزاع المجالي" بمثابة أنموذج للزعامة السياسية الوطنية الحقيقية، في وقت تعزّ فيه هذه الزعامات! هو كتاب لا بد أن يُدرّس في الأحزاب والمدارس وتقام حوله الندوات والمنتديات والبرامج التلفزيونية.
الميزة الكبرى لهزّاع أنه يرسم في كتابه شروط العمل السياسي الوطني، الذي يتجاوز لديه منطق التصفيق الكامل والانتهازية الشخصية والسلطوية من جهة، ويقفز من الجهة الأخرى على المنطق العدمي العبثي، والشعارات الخشبية.
عمل هزّاع في القصر بالقرب من الملك عبد الله الأول، وكذلك في الوزارة ومجلس النواب، ورئاسة الوزراء، ولم يتردد في كل هذه المواقع المهمة أن يستقيل، على ألا يرتكب ما يخالف قناعاته والقيم التي يؤمن بها.
ولعلّ الموقف التاريخي، الذي يُذكر لهزّاع، أنه قدم استقالة حكومته خلال التحضير لحلف بغداد عام 1955، ورفض أن يستخدم القوة مع المتظاهرين، لأنّ ذلك يخالف قناعاته، وما يؤمن به بحق الناس في التجمع والتعبير عن رأيها.
كتب في مذكراته عن تلك اللحظة التاريخية " إنني أقرر، هنا جازماً، أنه كان في استطاعتي أن أفرض الميثاق بالقوة، وأن أحمل المخاتير وتجار المناسبات على تأييده بالمهرجانات والبرقيات. ولقد كانت الوسائل لدي متوفرة، ولكني آثرت الاستقالة والانزواء في بيتي على أن أعتمد سياسة العنف، وأنا الذي كنت أستهجنها وأحاربها"!
ومع أنّ هزّاع دفع، كثيراً، ثمن مواقفه السياسية الرجولية، سواء باستقالاته، وأخيراً بمقتله، فإنّه لم يكن ممن يجيدون اللعب على وتر الشعبوية والجماهيرية، ولو على حساب مصالح دولهم، وطالما انتقد هذا النوع المتطرف من المعارضة، بخاصة في كلمته التاريخية في جلسة الثقة على حكومة إبراهيم هاشم التي تلت استقالة حكومته.
الجانب الآخر في شخصية هزّاع أن العمل الوطني لم يكن يعني له إما في المواقع الرسمية في الدولة والمداهنة أو النميمة ووضع الرأس في الرمال. بل كان الرجل تارة في المعارضة البرلمانية، وتارة في الحكومة، وأخرى يؤسس حزباً وطنياً (الحزب الوطني الاشتراكي)، ويصدر صحيفة يكتب فيها مقالات نقدية صارمة.
تلمس في كتابه الصدق والطهر الوطني والحب اللا متناهي للناس والمجتمع والدولة، مذكراته صفحة من الصراحة، والقصص الممتعة اللطيفة، تخلق لديك الشعور بالفجوة الواسعة بينه وبين أغلب رجالات الدولة والسياسة هذه الأيام، مما يثير الحسرة في القلب على ذلك الجيل الوطني المؤمن الحقيقي.
في تعليق الراحل الحسين على مقتل هزّاع، قال: قضوا على هزاع، فأصابونا إصابة بالغة عنيفة في أعماقنا، ولكنهم لم يقضوا على الأردن، فعلينا أن نواصل أداء رسالة هزاع المجالي رعاية لمصلحة هذا البلد وخيره.
رسالة هزّاع، التي تحدث الراحل عنها، هي شخصية رجل الدولة، الذي يؤمن بالإصلاح والديمقراطية والتطوير، وهو صاحب الموقف الرجولي التاريخي، الذي يعلي الشأن العام على الخاص، يمتلك نزاهة النفس واليد، وإن لم يجد موقعاً له في الدولة، كان في المعارضة والعمل السياسي الحزبي، وليس في صالونات النميمة، وطوابير المنتظرين والباحثين عن مواقع ومناصب، حتى لو كانت بلا مضامين ولا قيمة حقيقية!
m.aburumman@alghad.jo
محمد أبو رمان