في بداية التسعينيات، وتحديداً بعد صدور الميثاق الوطني الأردنيّ الذي شرّع الأبواب نحو الحياة الحزبيّة والتعدّدية السياسيّة، التقط كبار الساسة الإشارات التي أظهرت رغبة المغفور له بإذن الله الحسين بن طلال طيب الله ثراه بالولوج إلى مرحلة الحكومات البرلمانيّة سعياً نحو مستقبل أفضل وأدواتٍ شعبيّة أكثر قدرة على التعاطي مع نهضة الأمة ومتطلبات عيشها.
وكانت نتيجة ذلك أن سعى العديد من كبار خريجي نادي الوظيفة العامّة إلى تأسيس الأحزاب السياسيّة في طموح مشروع بالعودة إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، فجاءت الفكرة مقبولة من حيث الشكل لكن على حساب المضمون المفرغ من محتواه والبعيد عن الهدف الوطنيّ المنشود.
فقد سعت النخب إلى استخدام القواعد المناطقيّة والجهويّة لمنح نفسها الزّخم العددي المطلوب من الهيئات الحزبيّة، واحتل كبار الطامحين الصفوف الأماميّة بانتظار الرّافعة غير المُسيّسة لإيصالهم نحو الرّابع مروراً بقبّة العبدليّ.
وكان المولود هجيناً مفرغاً من العقيدة بعيداً عن البرامجيّة، فلم يستطع رغم كلّ المحاولات أن يصمد أمام القوى المؤدلجة التي كان بعضها خارج السّاحة لإعتبارات تعلّقت بالأمن الوطنيّ والتي كان من حقّ الأردنّ أن يتعاطى معها بشيء من الحذر طالما أنها اعتنقت فكراً لم يخفِ بعضها صريح أطماعه وبقي البعض الآخر يتحيّن فرصة التوسّع نحو الأردنّ بغطاء ثوبه الصّديق، ولم يكن هذا من منطلق التخوين بل الأردنّ المتسامح هو الحاضن لكلّ أبنائه، إلى أن ثبت خلوّ عقائدهم من شوائب بعض المشارب تلك.
ولدى جنوح الفكرة الوطنيّة عن مقصدها وتعسُّر وصول النُّخب إلى مُبتغاها كذلك، اجترحت الملكيّة الرّابعة فكرة «اللّامركزيّة» الإداريّة لتحرز هدفاً مزدوجاً بضربة واحدة، فالمناطق تعنى بحاجاتها مباشرة لا من وراء حجاب، والمجالس النيابيّة تتفرّغ من واجبها الخدميّ لتستقطب أصحاب الفكر من أهل الحلّ والعقد، لكنّ الفكرة قوبلت بتشكيكٍ وتشويهٍ إستنزفها عقداً من الزّمان في الدّفاع عن نفسها، وكان ذلك - وما زال بعضه - محاولة أخيرة للإبقاء على دوائر النّفوذ وأدوات التحكّم لبعض النّخب التي لا تملك قدرات سياسيّة بحتة بقدر ما تترّك في الجانب الخدميّ بما تبقّى لها من رصيد وقنوات مع السُّلطة.
(الرأي)