المهاجرون من أبناء مدينة معان إلى الشمال
أ.د. سعد ابو دية
13-12-2009 01:29 AM
لم يتحدث أي باحث حتى الآن عن هجرة ابناء معان للشمال وأسباب تلك الهجرات وخلفياتها الثقافية وسمات المساكن الجديدة في عمان وما يجمعها بماضي المهاجرين من أبناء مدينة معان..هذا الموضوع تداعى لخاطري عندما انتقل أخي حامد إلى رحمة الله قبل عام في مثل هذه الايام وقد عاد إلى خاطري سيرة المدينة وتاريخها وهجرات اهلها
اتجاهات الهجرة:
لم يهاجر أبناء معان في العهد العثماني من المدينة إلا في حالات نادرة منها هجرة تحدث عنها (داوتي) Doughty إلى حوران وتحديداً لمنطقة الشجرة. بعض المهاجرين عمل في فتح قناة السويس وحصل على مال ثم توجه شمالاً أو تفادياً لخلاف عشائري ولا أتوقع ذلك لأن الأقرب لمعان في هذه المسائل هو التوجه للطفيلة تحديداً.
وكانت معان تستقبل المهاجرين والدليل أن عدد سكان معان كان يتزايد. وبعد مد الخط الحديدي الحجازي الذي وصل معان يوم 1/9/1905 نشطت الهجرة لمعان ايضا لان محطة معان اكبر كثير من محطة عمان ولكن في الوقت نفسه نشطت إلى خارج معان على طريق الخط الحديدي.
ثالث هجرة للشمال:
كانت هجرات معان للشمال على طريق الخط وسكن أهل معان في جميع المحطات شمال معان حتى وصلوا إلى المفرق ومن هناك عملوا في شركة نفط العراق (I.P.C) وتوجهوا شرقاً على نفس الخط في الاجفور والاجفاف... (الرويشد والصفاوي الآن)..
سبق هذه الهجرة هجرات أخرى منها الهجرة التي تحدث عنها (داوتي) ومنها هجرة آل شويطر الذين سكنوا في (راسون) بعد مصاهرات مع المومنية في عجلون وهم من عتيبة أصلاً وأصحاب مواشي بحثوا عن المراعي شمالاً.
تدفق الهجرات للشمال بعد 1948م:
احتاجت الدولة لخدمات أبنائها من كافة أرجاء الاردن ومنها معان وأصبحت العاصمة هي الوجهة.. احتاج الجيش واحتاجت مؤسسات الدولة.. وفي هذه الظروف توجه أبناء معان للعاصمة للتعليم أو العمل.. ومن الرواد في تلك الفترة. اختار أخي حامد القطاع الخاص وفتح شركة تخليص وظل فيها (60) عاماً بنفس الانضباطية والمزاج الواحد والمرونة فلم يدخل في نزاع مع أحد طيلة هذه الأعوام الطويلة وكانت (حارة المعانية) هي وجهة أبناء معان ولكنها لا تتسع في محصورة بين معسكرين وأقرب مكان لها هي (ماركا) وهناك سكن بعض القادمين الجدد في منطقة سبقهم إليها جماعات من السلط والدعجة لاحقا بعد تدفق الهجرة من السلط للعمل سكن اهل السلط في حيين حي العبدلات وحي العوايشة ولقد دخلنا في مصاهرة مع العائلات السلطية
حي المعانية لايستوعب
جاء المعانية مبكرا لعمان واسسوا حي المعانية قبل تاسيس الامارة ولذلك اصبح مكتظا والارض غالية ومع ذلك ارتحلت العائلة إلى حارة المعانية فترة في حين اختار أخي (حامد) منطقة اختارها القادمون الجدد من معان وهي خلف منزل الشيخ (عبد الله العزب) مفتي القوات المسلحة الأردنية أحد أبرز شخصيات معان الذي سكن في منزل يقع تقريباً بين الهاشمي الشمالي والهاشمي الجنوبي وخلف المنزل بستان كبير على طريقة أهل معان الأصليين إذ يسمونه (قصيلة) وزرعه بالعنب وفي خلف البستان مباشرة سكن المهاجرون الجدد في خط مستقيم خلف منزل الشيخ عبد الله العزب. لقد تم بناء هذه المساكن على نفس طريقة أهل معان في أن تكون هناك (مصطبة) يجلس عليها الرجال مساءً. لقد انتشرت البيوت في خط مستقيم أفقياً لمسافة تزيد عن (2000)م وشيء ما لفت انتباهي أن هؤلاء الجدد أقرب لثقافة معان من سابقيهم الذين سكنوا في حي المعانية وكان الحي الذي حمل هذا الاسم فيه (شوام وشركس وغيرهم) وأتوقع أن للمرأة دوراً فمعظم زوجات الجدد من معان ولقد لاحظت ذلك في حفلات الأعراس أو المناسبات السارة أن للنساء دبكات حلقات مستديرة ومعها أغاني رائعة. وفي هذه الأيام وثق باحث من معان جميع تلك الأغاني. وعودة للدبكات النسائية فإنني لم أشاهدها إلا في مناسبات تلك الجماعات في ذلك الخط الذي تحدثت عنه.
قصة حي المعانية
وفي محطة عمان أسس المعانيون في وقت مبكر جدا في العشرينات مع مجيء الملك المؤسس وقبلها حي المعانية جنوب سكة الحديد التي ارتبطوا بها ارتباطاً تاريخياً روحياً. لقد اشتروا الأرض من جلال بك (تركي) بثلاثة قروش للمتر الواحد. وكان هذا الموقع أغلى من أي بقعة أخرى في الأردن وليس عمان فقط.
معان والملك المؤسس:
لقد دخل الملك المؤسس مدينة معان عام 1920 وفيها أسس الجيش العربي وبدأ نشاطه السياسي فيها وظل على علاقة خاصة باهلها وفي مرة عرض عليهم ارضا في الحمر وفي خطاب قال ذلك
بصراحة :
[وإني حين اذكر الجيش العربي يدور في خلدي تلك الآونة التي وصلت فيها إلى معان ثم إلى هذه البلاد فمعان هي جارة البلاد التي يقوم بها بيت الله الحرام وجارة الرسول عليه السلام وهي العاصمة الأولى لهذه البلاد فهي في نظري ألمع حجر في البلاد الأردنية وستظل كذلك إلى ما شاء الله].
وهنا أوضح معلومه هامة أن الملك المؤسس لم ينزل في البداية في تلك المحطة التي تظهر صورها وإنما نزل في نفس مدينة معان القصبة وبين أهالي معان أنفسهم في منزل لأحد وجهاء عشيرة الغناطسة وهو الآن مدرسة...
نوعية المهاجرين:
كان في (معان) كما لاحظ بيركهارات تركيزاً على التعليم اذ كتب عام 1812 عندما زار المدينة :[إلا أنه من المرجح أن الأهالي يعتبرون بلدتهم مركزاً أمامياً للمدينة المنورة. وهم مكرسون أنفسهم لدراسة القرآن بلهفة زائدة والقسم الأكبر منهم يحسنون لقراءة والكتابة وكثيرون منهم يعملون بصفة دائمة كتابً لشيوخ البدو الكبار].
ومن معان تخرج على يد الشيخ الكبير عبد الكريم الرواد أجيالاً متعلمة. كان أكثر الشيوخ شهرة بين أقرانه. كان تلاميذه يحفظون القرآن ونوعيات مميزة للغاية ومنهم أخي حامد الذي جاء لعمان متعلماً مع أخيه الأكبر أحمد. عمل حامد في القطاع الخاص لستين عاماً بانضباطية ومرونة متناهية فلم يتعرض لمشكلة طوال السنين وكان مثالاً في النشاط والجد.
وفي نفس تلك الفترة جاء لعمان طلاب أصغر سناً وفي فترة واحدة جاء طلاب هم أحمد العقايلة ويوسف العظم وقبلهم بهجت التلهوني واخرون مثل عبدالله العزب وعلي عوجان وعمر مطر وكانوا نموذجاً آخر للقادمين من معان ورواداً في التربية والتعليم أو القوات المسلحة او الحكومة ولا عجب في ذلك لان المدينة عاشت في ظل تلك التقاليد
الميراث التاريخي أو القوة الناعمة:
وتاريخياًُ كان في سلوك أهل مدينة معان إنضباطاً غير عادي.. إذ كتب الرحالة الفنلندي جورج فالن عام (1845): أن معان هي المدينة الوحيدة على طريق الحج الشامي التي لا يوجد بها حامية عسكرية علماً أنها أكبرها وكتب بالنص [ وحتى ذلك الوقت وخلافاً لما هو الحال في المحطات الأخرى من طريق الحج لم تكن الحكومة التركية قد عينت قائداً للقلعة والقرية فتركت للأهلين أمر تصريف شؤونهم وتموين قوافل الحج ويبدو لي أنهم قاموا بذلك على أفضل وجه].
وكتب :( وهم أقوياء البنية سوريو الملامح وهذه القوة تبعث في نفوس أهل معان ثقة تجعلهم يرفضون "الخاوة" التي يفرضها شيوخ القبائل المجاورة) ثم يضيف :
[حيث يقدر البدو رجولة سكانها وشجاعتهم ويرونهم أهلاً لهذا التقدير].
ويرى (فالن) أن هذا أسفر عن تجارة نشيطة لم يشهد مثلها في أي مكان على طريق الحج.
كما لاحظ (بيركهارات) الذي زارها (1812) أن أهلها صريحون للغاية وأنهم لا يجاملون جامعي الزكاة الذين كانوا يصلون لمعان والكرك عن طريق (ابن سعود) في نجد وكانوا وهابيين (لا يدخنون) وكان الجميع تقريباً لا يدخنون بحضورهم ما عدا أهل معان الذين لم يغيروا من تصرفاتهم أمام جامعي الزكاة.
محطة عمان هي السوق ونقطة الارتكاز:
جمعت محطة عمان جميع تلك الأحياء المعانية وماركا والتاج والهاشمي والمخيم والعبدلات والعوايشه وشدتها إليها وهذا ما دار في خاطري وأنا استعرض سيرة أخي الأكبر وفيها من العام ما جعلني استعرضه في حديثي عن حركة السكان وأخلاقياتهم وثقافاتهم وهي جزء من ثقافة وسيرة مدينة فيها الكثير من عبق التاريخ الأردني المجيد...
مظاهر حياة محطة عمان
في المحطة كان هناك (سوقين) كبيرين الأول (تجاره سوريون) في سوق يملك معظمه جميل الصالح حتر من أقدم شخصيات المحطة وأكثرها احتراماً عند أهالي المحطة... وبعد حرب 1948م فإن القادمين الجدد من أبناء فلسطين سكنوا في مخيم المحطة وفي أقرب منطقة ما بين السوق القديم والمخيم تم بناء سوق جديد أكبر من السابق وبدأت المحطة تشهد تعددية أكثر. وبالرغم من هذه التعددية فقد ربطت المحطة بين جميع سكانها من شوام وغيرهم برباط خاص جمع الجميع إنهم من المحطة وأبناء المحطة عقدة المواصلات وفيها محطة الخط الحديدي الحجازي وفيها رياضياً أشهر ملعب في الأردن وكانت تجري المباريات فيه وفيها مدرسة الفتح الثانوية التي أمر الملك المؤسس بتأسيسها عام 1933م وجمعت أبناء العسكريين أو أقاربهم وكان فيها مسجداً مميزاً في بنائه وما زال حتى الآن... وفي المحطة معسكر الملك طلال ومعسكر المحطة وبالنسبة لي عشت سنوات مابين المعسكرين الجميلين ومن وراء منزلنا معسكر الملك طلال بأشجاره الجميلة ومن أمام منزلنا في أسفل الوادي محطة سكة الحديد. ومن خلفها معسكر جميل كبير وفيه مدرسة الفتح بمسجدها الشهير..
ولم أتوقع يوماً أن الجغرافيا والجوار يمكن أن تربط الناس بمثل هذه العلاقات الحميمة التي تزيد قوة يوماً بعد يوم.
وقد تكون هناك فرصة ومناسبة سارة نتحدث عن بعض سمات مدن الأردن وما يربطها بالتاريخ وأرجو أن أكون قد وفقت في عرض العام من تاريخ بلدي في سياق الحديث عن أمر خاص