تظهر شوارعنا ومنصاتنا الإلكترونية حجم ( الغضب ) المستكن وإنعدام الصبر والشعور بالراحة ، ونسأل عن السبب الذي يجعل معظمنا في ضيق وقد لا يكون العامل الإقتصاديّ وحده هو المسبّب ، كما نعي في قرارة أنفسنا حاجة لبذل مجهود أكبر في التربية لا سيّما مع الجزر المعزولة التي خلفتها التكنولوجيا في بيوتنا ، إضافة لفقداننا أبسط أشكال الترفيه في حياتنا اليوميّة .
وقبل أن أخوض في الموضوع أتسائل ، هل كنّا ننجز أقلّ حينما كانت معظم الدوائر الرسمية تنهي أعمالها بين الثانية والثالثة عصراً وكذلك الشركات التي كانت تعمل لساعات أقلّ قبل عقدين من الزمان ، وهل ننجز اليوم أكثر ؟ والحقيقة المتّفق عليها أنّنا كنّا مرتاحون أكثر رغم بساطة الأدوات وتطلّبها للمجهود البدنيّ في حينه .
وقد طرحت رئيسة الوزراء الفنلندية فكرة تخفيض ساعات العمل اليومي إلى ( ٤ ) ، لكن ذلك رقم ضئيلٌ ولا يتناسب مع معظم دولنا النامية رغم سلامة التوجّه من حيث المبدأ والأساس .
فقد أظهر إستطلاعٌ أجري في العام ٢٠١٧ أن إنتاجية الموظف في ألمانيا أعلى من نظيره في بريطانيا بنسبة تتجاوز الـ ٢٧٪ ، رغم أن العامل الألماني بقضي ساعاتٍ أقلّ من نظيره البريطانيّ بـ ٢٠٠ ساعة سنوياً !
وطالما أن طبيعة الحياة تتطلّب إهتماماً أكبر بالنّشء وتعزيز الروابط الأسريّة ، ولمّا أصبحت الأسر تضمّ أبوين عاملين يصلان بيتهما بعد الساعة الخامسة مساءً في أفضل الأحوال داخل العاصمة ، لا تتوفّر الفسحة الكافية للرّاحة ومتابعة الأبناء على النحو المنتج والمثمر ، بل يضيق الوقت بالواجبات على حساب النوعيّة والإتقان .
وإنّ آدمية الإنسان وحقّه في الرّاحة لا تتعارض مع الإنتاجيّة طالما بنيت أنظمة العمل على أسس علميّةٍ مُجَرَّبةٍ ومدروسة .
ومن الأمثلة على ذلك ما نشرته مجلّة " كونتراست" العالمية في العام ٢٠١٧ ، إذ طبقت مدينة غوتنبرغ السويديّة نظام عمل يوميّ لستّ ساعاتٍ في منزلٍ للمُسنّين ، وجائت النتائج المتميزة لتثبت إرتفاع مستوى رضى النُّزلاء نتيجة لتحسن نفسية الموظفين وسعادتهم وإنتاجيّتهم وإنخفاض نسب الإجازات المرضيّة لديهم ، مما ساعد الدُّور على توسعة الخدمات ورفع عوائدها الماليّة تبعاً لذلك .
وفي حال أن أثبتت الدراسات سلامة هذا الخيار في مملكتنا الحبيبة ، يكون من الممكن تنظيم ساعات إنتهاء الأعمال بشكل متفاوت بين القطاعات للتخفيف من الإزدحام المروريّ والسيطرة على فاتورة الطاقة ومنح الأسواق على إختلاف أنواعها فرصة إستقبال أعداد أكبر من الزائرين بشكلٍ يوميّ لا أسبوعيٍّ فقط ، وقد عملت بعض الدول على توجيه الإقتصاد بهذه الآليّة ومنها الولايات المتّحدة التي تعتمد معظم ولاياتها صرف الأجور للعاملين بشكلٍ أسبوعيٍّ لا شهريّ .
لا شكّ بأنّ كلّ جديد عرضة للجدل والمعارضة ، لكنّ المنظار لا بدّ له وأن يكون واسعاً ليأخذ بعين الإعتبار ما سلف ذكره من أهدافٍ ونتائج نرجوها جميعاً كما أنّ التعديل والتغيير سنّة الأمم ، وقد يحتاج الأمر كذلك إستطلاعاً وتعديلاً لقانون العمل فيما يختص بأيام وساعات العمل والإجازات .