سلسلة تاريخ الحكومات الأردنية على امتداد نصف قرن (3)
د.هايل الدهيسات
12-12-2009 07:35 PM
أحداث عديدة ومتنوعة.. أحياناً، كانت مريرة، وأحياناً أخرى كانت على مستوى الفرح الوطني والقومي، وفي كل الحالات، كانت دفقات حارّة في اتجاه الشروق المرتقب ليوم صناعة التعريب.. وفي هذا الاتجاه، سارت قوافل التضحيات الكبيرة دائماً، لتتوج المسيرة، في الأول من آذار سنة 1956، كما في أيام سبقت هذا التاريخ، أو جاءت من بعده.
ففي تمام الساعة السابعة والنصف من يوم الجمعة 2 آذار سنة 1956 نقلت إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية نبأً مهماً، وحمل الأثير صوت الملك الحسين بن طلال رحمه الله: " أيها الضباط والجنود والبواسل: أحييكم أينما كنتم، وحيثما وجدتم، ضباطاً وحرساً وجنوداً. وبعد: فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا، إن نجري بعضاً من الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش، فنفذناها متكلين على الله العلي القدير، ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتها، وأنني آمل فيكم - كما هو عهدي بكم – النظام والطاعة.
وأنت أيها الشعب الوفي، هنيئاً لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن ونذر روحه لدفع العاديات عنك.. مستمداً من تاريخنا روح التضحية والفداء..ومترسماً نهج الألى، في جعل كلمة الله هي العليا."
هكذا يكون العطاء، عندما يكون الوطن نقطة الارتكاز فيه، في هذه الحالات يسمو العطاء إلى درجة مهمة حمل الرسالات التي لا تفنى في تاريخ الأردن عبر امتداد العصور. ففي تاريخ 20/5/1956م قدمت وزارة دولة السيد سمير الرفاعي الرابعة استقالتها، وقبل ذلك كانت قد تكفلت بإصدار قرار تنحية كلوب في تاريخ 1/3/1956م.
ثم عهد جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله إلى السيد سعيد المفتي بتأليف وزارة جديدة خلفاً لوزارة سمير الرفاعي. وورد في كتاب التأليف: الرغبة بأن يهدف منهاج الوزارة الجديدة إلى تحقيق بناء اقتصادي سليم يوفر للمواطنين حياة كريمة، واتخاذ خطوات سريعة تهيئ لكافة أفراد الشعب القدرة على مواجهة العدوان والدفاع عن كل شبر من أرضنا.
تقدمت حكومة سعيد المفتي الرابعة ببيانها الوزاري في 20 حزيران 1956 مسترشدة في رسم سياستها بكتاب التكليف السامي، والذي شدد على تحقيق أهداف تضمن للمملكة حكماً قوياً، وبناء اقتصادياً سليماً وجهازاً حكومياً صالحاً، وقدرة على مواجهة الأخطار الخارجية، وتمكين العلاقات الأردنية بالدول العربية الشقيقة.
وركز البيان الوزاري على ضرورة رعاية الحريات العامة، وتطبيق سيادة القانون، وتوسيع نطاق التجارة الأردنية الخارجية بفتح أسواق جديدة للصادرات الأردنية، وعزم الحكومة في الدخول بمشاريع داخلية رئيسية تتمثل في ميناء العقبة ومصفاة البترول والفوسفات والبوتاس وإنشاء مصنع للسكر، والاستمرار في تعميم الخدمات الصحية والتعليم ووضع قانون جديد للانتخابات النيابية وتحديث التشريعات لكافة القطاعات.
ففي عهد هذه الحكومة قدم اللواء راضي عناب رئيس هيئة الأركان طلباً بإحالته على التقاعد، وجرى تعيين المقدم علي أبو نوار رئيساً للأركان، بعد أن صدرت إرادة ملكية بترقيته إلى رتبة أمير لواء، وكان ذلك في 24/5/1956 وعمدت هذه الوزارة إلى حل مجلس النواب بتاريخ 26/6/1956 ثم قدمت استقالتها في اليوم ذاته عملاً بنص الدستور بعد أن مكثت في الحكم 37 يوماً.
تألفت حكومة إبراهيم هاشم الرابعة الانتقالية يوم 1 تموز 1956 وأمضت في الحكم زهاء أربعة أشهر بعد أن أشرفت على إجراء الانتخابات البرلمانية للمجلس النيابي الخامس 1956ـ1961 التي تمت على أسس التكتلات الحزبية، ونجح فيها ممثلو عدد من الأحزاب، والتنظيمات السياسية، مثل الحزب الوطني الاشتراكي، وجماعة الإخوان المسلمين، والحزب العربي الدستوري، والجبهة الوطنية، وحزب البعث الاشتراكي.
وفي عهد هذه الحكومة تم فصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي اعتبارا من 14 تموز 1956 وأنشئت مديرية للأمن العام، ضمت الشرطة والدرك، وعين الزعيم بهجت طيارة مديراً لها. وبعد أن ظهرت نتائج الانتخابات النيابية رفع دولة رئيس الوزراء إبراهيم هاشم استقالته يوم 27 تشرين الأول 1956.
أحداثٌ متسارعة كانت قد تسببت في خلق أزمات سياسية خانقة انعكست أثارها الخطيرة على المشهد السياسي الأردني، كان ذلك بعد سنة من رحيل كلوب، (أبو حنيك) حيث ربيع عام 1957، كان على الحسين أن يواجه عصيان الزرقاء الذي انتصرت فيه إرادة الملك الشاب، وإدارة العناصر السليمة، ذلك التمرد الذي هدف لاغتيال شخص الملك. ومن هنا قال جلالته رحمه الله متسائلاً: كيف أوشك أن ينجح عصيان بهذه الأهمية؟ كيف وجدت نفسي وحدي تقريباً في خط النار بين فريقين من الضباط؟.
كيف استطعت أن أنجو بينهما كان الرصاص يلامسني عن قرب وكنت أحس برائحته وحرارته؟.. ومن هنا أيضاً كان قوله:" بعد مرور العديد من السنين تحملني قضية الزرقاء على التفكير في أنها كانت بمثابة تطهير لجرح كان يتقيح وينخر بالتدريج قلوب أكثر الرجال إخلاصا".
كان الحزب الوطني الاشتراكي قد حصل على إحدى عشر مقعداً في المجلس النيابي الخامس. على الرغم من عدم نجاح سليمان النابلسي في انتخابات هذا المجلس، إلا أنه وبوصفه رئيساً لحزب فائز في الانتخابات أصبح صاحب دولة، ولكن سرعان ما دبت الصراعات السياسية بين الحكومة اليسارية والقصر. واللا منطق الذي يوازي انتهازية بعض السياسيين اليساريين الفائزين في انتخابات حرة ونزيهة، هو التآمر على شخص الملك بهدف تغيير وجه الحكم لصالح المد الاشتراكي.
كانت حكومة النابلسي قد تقدمت ببيانها الوزاري في 27 تشرين الثاني 1956 وتبنت سياسة قومية تحررية، مشددة على إيمانها العميق بإرساء قواعد الحياة النيابية الدستورية الديمقراطية، والتمكين لها باحترام الدستور وأحكامه نصاً وروحاً، وبضمان سيادة القانون وإطلاق حريات المواطنين وتعديل القوانين التي تحد منها.
وجاء البيان ليركز على الإبقاء على القضية الفلسطينية حية، وتوحيد السياسة الخارجية للدول العربية، ومتناولاً البحث في إعادة النظر بأوضاع الجهاز الإداري، وسن قوانين تقدمية تتماشى مع سياسة الأحزاب والمطبوعات والنشر، وتأمين المعونة العربية للجيش العربي.
في 31 من كانون الأول سنة 1951 أقر دولة النابلسي مشروع قانون يسمح بصدور جريدة الجماهير الشيوعية، وبالوقت نفسه تم منح مكتب لوكالة تاس في عمان، وغيرها، الأمر الذي أدى إلى تسرب النشرات والأفلام الاشتراكية إلى المشهد السياسي الداخلي، وأصبحت عمان ساحة للتهديد والوعيد وللاتهامات المضادة المتشبعة منذ بدء مرحلة الثوريين العرب التي استهدفت تراب الأردن وقيادته بشكل مباشر تلك المرحلة التي امتدت من عام 1952 إلى عام 1970م.
إن تمرد وتأمر اليساريين الذي استهدف القصر بشكل مباشر، كان قد طال ضباط الجيش العربي الميالين إلى جبهة اليسار، وعلى رأسهم اللواء علي أبو نوار رئيس هيئة أركان الجيش. وكان عبد الله الريماوي وزير الدولة للشئون الخارجية ووزراء آخرون من بين المتآمرين لصالح حكومة دمشق الاشتراكية، ولمراكز قوى أخرى كما يقرأ ذلك في أقوال الحسين رحمه الله.
والشيء عينه يقال في يقين حكومة اليساريين الذي سعوا لتغيير وجه الحكم والحكام في تلك الحقبة العصيبة من تاريخ الأردن الحديث، كان في يقينهم أنهم يضعون الحلول الأنسب لتثبيت أطماعهم من خلال تنفيذ أجندة الاشتراكية. ومع هذا كله، انهارت كل الإطماع وانتصرت إرادة الملك والوطن المرتبطة بإرادة الفعل الطيب أولاً وقبل كل شيء.
أقبل ربيع عمان حائرا كئيباً، كان الأمر يزداد صعوبة، وكانت الحكومة الأردنية اليسارية التي يؤيدها الرئيس جمال عبد الناصر قد سيطرت على المنافذ الإستراتيجية في عمان، بل تسربت إلى كل مكان، وبدأ علي أبو نوار رئيس هيئة أركان الجيش العربي يستعد لتوجيه المشهد السياسي، وقبل ذلك دنت ساعة الحسم.
نقرأ ذلك في أقوال الحسين: "في العاشر من نيسان سنة 1957 دخلت إلى مكتبي وقلت للتلهوني رئيس ديواني" "هذا وقت عزل الحكومة". حمل المرحوم بهجت التلهوني رئيس الديوان الملكي كتاباً موجهاً إلى مكتب دولة سليمان النابلسي يتضمن إقالته بعد أن أمضت وزارته في الحكم أكثر من أربعة شهور.
وهكذا نكون قد ألقينا بعض الأضواء على المشهد السياسي لتاريخ الحكومات الأردنية منذ تولي الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية، من خلال مقالتنا هذه التي تمثل السلسلة الثالثة من المشهد السياسي لتلك الحقبة الزمنية على أمل استكمال السلسلة إن شاء الله.
dr.hayel66@yahoo.com