اللغة العربية في يومها العالمي
أ.د. خليل الرفوع
18-12-2019 01:43 PM
للعربية وجدٌ يتجددُ كأنفاس الصبح ونفحِ الضحى، فلها هذا العشقُ المتمكن في القلب :
هواها هوًى لم يعرِفِ القلبُ غيرَه فليسَ لها قبلٌ وليس لها بعدُ.
لا نعلمُ عن بداياتِ تشكل العربية، لكننا نعرف أنها مرت بأطوار الولادة والطفولة والشباب حتى اكتملت نضوجا وأسلوبا قبيل الإسلام بمائتي سنة إلى مائة وخمسين، والحقُّ أن تلك الفترةَ قد شهدت أبهى عصور الشعر العربي ، وهو ما يسمى عصر الفحول كامرئ القيس وزهير بن أبي سُلمى والأعشى وعنترة وغيرهم، وفي شعر هؤلاء تشكلت العربية أسلوبا وتركيبا وبنية وبيانا، وقد كرمها الله بأن أنزل القرآن بلسانها المبين، فكان المعجزةَ الأبدية مما أكسبها حياةً وخلودا وتجددا.
لقد تعرضت العربية قبل الإسلام وبعده إلى عوامل مُزلزلة كادت تؤدي بها وبأهلها، لكنها بفعل قوتها الداخلية وطبيعة تركيبها ونظمها كانت عصية على الانقراض والفناء، فوجود الفرس شرقا، والروم شمالا وغربا، وهما أعظم حضارتين تحاصران العرب قبل الإسلام ومن ثم الأحباش جنوبا الذين وصلوا إلى الكعبة لهدمها لأسباب دينية واقتصادية بإيعاز من بيزنطة الروم ، كان ذلك بعمومه تشابكا واقعيا للقضاء على العرب واستئصالهم وجوديا، وقد صاحب ذلك انتشار لهجات كثيرة، لكن الشعر وحّدَ العرب جميعا على لهجة قريش التي تنزل بها القرآن، وكان لقريش آنذاك سلطان ديني سياسي اقتصادي لغوي.
وحينما ساح العرب في الأقطار المفتوحة أضحت العربية لغة أولئك الأقوام، ومن لم يستطع منهم التكلم بها اتخذ حروفها خطًّا وتدوينًا وكتابةً، وبذا غدت لغة علمية عالمية، لتكلم الناس جميعا بها خطابا وتفكيرا وتأليفا، وأثناء ذلك وبعده جُوبِهتَ تأريخيًا بأحداث استئصالية كالصراع مع اللغات الأخرى التي أسلم أهلها، والغزو المغولى والحملات الصليبية وسيطرة عسكرية سياسية لغير العرب من أكراد ومماليك وأتراك ودول استعمارية ودعاة العاميات، وصناعاتٍ تكنولوجية ورقمية بلغاتها التقنية والمُهجّنة، وقد خرجت من كل ذلك كالعنقاء تحمل - مثل سيزيف - أثقالها وأوجاعها صاعدة كيلا تسقط في أودية الانقراض، محملةً بسحر بيانها شعرا وأدبا ومعرفةً على ألسنة عشاقها ومريديها، وهي بذلك تتمدد داخليا وخارجيا مستوعبة حصاد العصور كلها تفكيرا وتأليفا وحديثا.
"اقرأ باسمِ ربكَ الذي خلقَ" ، كانتْ مُفْتَتَحًا قرآنيًّا للعقلِ البشري، وكان قسَمُ اللهِ بالحرفِ والقلمِ وما يسطُرُونَ مُفْتَتَحًا لُغَويًّا بيانيًّا أبديًّا لبقاءِ اللغةِ وإحيائِها، وقد صدقَ اللهُ، إذْ نشهدُ تطورَ العربيةِ في مختلف مجالاتِ الحياةِ، حتى أصبحتِ عالميةَ الحضورِ في كلِّ المؤسساتِ الأمميةِ، فلم تضقْ بالوصفِ بلْ تتمددُ لتسعَ كلَ تقنيةٍ وجديدٍ، ولم يكن يوم الثامنَ عشرَ من شهر كانون الأول سنة ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين إلا اعترافا من العالم ممثلا بالجمعية العامة باللغة العربية لتكون ضمن لغات الأمم المتحدة خطابا وعملا، وكان ذلك إقرارا دوليا بقيمة العربية وأهمية حضورها مما زادها غنًى وألقا، وستبقى هُوية وتراثا وقيمة ومستقبلا وحياة.