أعتدت أن أبقي "مؤشر الراديو" على موجة "هيئة الإذاعة البريطانية" ، لا أسمع غيرها سوى "إذاعة سوا" حين يكون الأطفال بصحبتي ، ولكنني تعرضت خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة لوابل من الإذاعات والموجات والكاسيت ، مع كل "تكسي" ركبته. برامج هابطة ومسيئة للذوق العام ، والاسم الرسمي لها: برامج شبابية ، تمضي نصف ساعة من المنزل إلى المكتب والمذيعة تتحدى أحدهم أن يعطيها معكوس كلمة شوكولاته... برامج غنائية على طريقة ما يطلبه المستمعون ، لا لون لها ولا طعم ، بل ولا أدري كيف تستمر هذه البرامج وتبقى ، ففي كل بيت مسجل أو كمبيوتر ويستطيع من يرغب بأغنية أن يداوم على سماعها ليل نهار ، فلماذا يكلف نفسه عناء الاتصال بالإذاعة لبث الأغنية إن كانت هي المطلوبة ، وليس "طق الحنك" مع المذيعة "الرخوة" والمذيع "المهضوم".
أحاديث تشيع الرعب والقشعريرة في النفوس ، تبثها أشرطة الكاسيت مصحوبة ببكائيات الورع والتقوى ، وهجائيات مقذعة للآخر ، والآخر هنا هو كل من يختلف مع صاحب الكاسيت ، من المسلمين واليهود والنصارى على حد سواء ، هذا ينذر من عذاب القبر ، وذاك يقترح زرع الرعب في نفوس الأطفال بدعوى تعويدهم على ممارسة العبادات وتقديم الطاعات ، وثالث يحلق في عالم الخرافة والأسطورة والبلاهة من دون أن يرف له جفن.
تخرج عن صمتك وتبدأ حوارا مع "السائق": تسأله عن اسم الإذاعة أو مصدر الكاسيت ، يرمقك بنظرة استهجان فيها من الاستخفاف بمعارفك أو بالأحرى بجهلك ما فيها ، تسأله عن الفائدة والمتعة مما يقال ويسمع ، فيأخذك إلى "مطارح" لم تكن تنتظرها...هذه فنانة رائعة وتلك مذيعة (....) ، هذا مقرئ عظيم ، وذاك شيخ ـ بحر في العلوم والمعارف.
سائقو "التاكسيات" الذين أعاشرهم بكثرة هذه الأيام ، لا يخفون هويتهم "الإيديولوجية"...هذا "سلفي" من مظهره ولباسه وكاسيتاته...وذاك "صايع" تعرفه منذ الوهلة الأولى ، من كثرة الوسائد والمخدات التي يحيط نفسه بها ، وأعقاب السجائر التي تعج بها المنفضة وأكواب القهوة المتكدسة قرب "الجير" ونظام "الستيريو" و"الأمبلي فاير" الذي يدجج به سيارته ، والفئة الثالثة (الأكبر) ، مواطنون عاديون يكدون في كسب لقمة العيش الصعبة يعملون على نظام "المرابعة" الإقطاعي القديم: ربعا دخل السيارة لصاحبها والربع الثالث للبنزين والمخالفات والربع الرابع للأكل والشرب ومصروف العائلة وإيجار المنزل وفواتير الماء والكهرباء والطبابة والعلاج والمدارس.