جنون "بريكست" وامتحان الديمقراطية البريطانية
د.محمد المومني
17-12-2019 12:59 AM
تصدعت رؤوس من يتابعون شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي أو ما يعرف بالبريكست. البعض وصف هذه العملية والجدل السياسي الذي رافقها على أنه شلل أصاب الديمقراطية البريطانية التي باتت غير قادرة على حسم هذا الأمر السيادي والجدلي الحساس. آخرون ذهبوا لأبعد من ذلك، استخلصوا أن الديمقراطية البريطانية قد جُنّت. نتائج الانتخابات الاخيرة أثبتت العكس، على مستوى مؤسساتي وأيضاً على مستوى سلوك الناخب والرأي العام البريطاني.
مؤسسياً، وبعد شهور طويلة من الشد والجذب، وتغيير الحكومات والشخوص، وإعداد الخطة تلو الاخرى للخروج من الاتحاد الاوروبي؛ بعد كل ذلك، أعيد الامر للحسم عن طريق انتخاب برلمان جديد بتفويض جديد يحسم الخلاف بين الحكومة والمعارضة حول بريكست. نظام دمج السلطات البرلماني نجح مؤسسياً في الخروج من حالة الاستعصاء التي تأتت بسبب درجة الاستقطاب والتجاذب الكبيرة بين الاحزاب المؤيدة وتلك المعارضة لبريكست. الحكومة المنتخبة تشكل الآن غالبية البرلمان ما يعني أن السلطة التنفيذية هي ذاتها السلطة التشريعية المعنية بتشريع قوانين وأنظمة الخروج من الاتحاد الاوروبي. من الصعب تخيل حدوث شيء شبيه في نظام فصل السلطات الذي يفقد القدرة على العمل تماماً، ويصاب بحالة شلل إذا ما تمترست السلطة التنفيذية والتشريعية خلف مواقف متضادة. رأينا حالات الاغلاق المالي للحكومة الفدرالية الاميركية بسبب عدم اتفاق رئيس السلطة التنفيذية -الرئيس الاميركي- مع أعضاء السلطة التشريعية مجلس النواب بالكونغرس، وصل الامر لحدود عدم القدرة على دفع رواتب الموظفين لأن الكونغرس يرفض إصدار قانون الموازنة.
أما على صعيد السلوك الانتخابي التصويتي فقد كان نجاحاً ديمقراطياً أيضاً، حيث أظهرت نتائج الانتخابات تصميماً لا تردد فيه على رغبة غالبية البريطانيين الانفصال عن الاتحاد الاوروبي تماماً كما التصويت الاول على الخروج. الاستمرارية في موقف الرأي العام من البريكست يدل على وعي انتخابي وإلمام بتفاصيل هذه القضية المصيرية المعقدة. لم يجرؤ أي سياسي على تحدي نتائج تصويت الناخبين، وأصبح عدم الخروج من الاتحاد الاوروبي وتنفيذ بريكست يعتبر تحدياً للديمقراطية البريطانية وفشلاً لها. ساعد على الاستمرارية في السلوك التصويتي الحجة القوية التي ساقها مناهضو البريكست، وبطريقة مقنعة استحضرت التاريخ وحاكت الخصوصية البريطانية. هؤلاء أقنعوا غالبية البريطانيين أن البريكست ما هو الا شكل آخر من محاولات نابليون وهتلر لتوحيد أوروبا، وأن الحفاظ على خصوصيات الدول أفضل لأوروبا، وأن بريطانيا كانت وستبقى أوروبية لكن بحلتها وتميزها البريطاني. نجح الخطاب واقتنع البريطانيون بالحجة.
لنظام دمج السلطات البرلماني مساوئه كما له حسنات، تماماً كما هو الحال بنظام فصل السلطات. في حالة البريكست، نجح النظام البرلماني الدامج للسلطات وأخرج بريطانيا من استعصائها، وانتصرت الديمقراطية البريطانية مؤسسياً وعلى صعيد سلوك الناخبين، الذي أظهر استمرارية تصويتية وإلماما بتفاصيل سياسية معقدة، وفهمها واتخاذ موقف انتخابي بشأنها.
(الغد)