بين يدي خطاب جلالة الملك في ذكرى الاستقلال!
أ.د.فيصل الرفوع
27-05-2007 03:00 AM
على مدى القرنين الأخيرين أعاد منظور العمل السياسي الدولي ترتيب أولوياتهم خاصة فيما يتعلق بالجيوبوليتكس وبالجيواستراتجيا، إذ لم تعد، فقط، الدولة الكبيرة المساحة أو التي تملك ترسانة السلاح هي الدولة الأقوى والتي يحق لها أن تسكن في قلب النظام الدولي بينما تقبع الدول الأخرى الأصغر مساحة والأقل قدرة عسكرية في منطقة الهامش ولا تستطيع أن تخرج منها إلا إذا ما اندمجت ضمن منظورة قوية خارجية. فلقد استطاعت دول كثيرة في هذا العالم ان تثبت وجودها ليس ارتكازاً على سعة المساحة أو ضخامة القدرات وإنما انطلاقا من الإيمان العميق بالانتساب الإنساني والالتزام بتحقيق الأمن والسلام والاستقرار والحياة الفضلى لسكان الأرض. ومن بين هذه الدول الأردن الذي استطاع أن يضع نفسه في خدمة الإنسان دون أن يعوقه شح الموارد أو ضعف الإمكانيات خاصة بعد أن ترتبت له قيادة ذات خبرة ووعي وإدراك لحدود الاستطاعة وتتمتع بروح الاندفاع والتصميم على تجاوز المعوقات وتخطي التحديات. فتمكن البلد وتمكنت هذه القيادة من الوصول إلى العالمية من حيث الوجود والمساهمة الفاعلة واحتلال مراكز متقدمة بين دول العالم.ففي مساء الخميس الموافق الرابع والعشرين من مايو- أيار 2007، كان جلالة الملك عبد الله الثاني في لقاء مع شعبه، قيادات ومواطنين، احتفاءً واحتفالاً بالذكرى الحادية والستين لاستقلال الأردن من الاستعمار الإنجليزي، الذي ساهم وبكل قواه للإتيان على طموحات الشريف الحسين بن علي ، مفجر الثورة العربية الكبرى وقائدها، في توحيد الأمة والنهوض بها إلى تبوأ المكانة التي تليق بها كأمة حية.
لقد تحدث جلالة الملك عبد الله الثاني، في هذه التظاهرة القومية بكل وضوح وجرأة لا لبس فيها، بعيداً عن المواربة والقفز إلى الأمام، لقد كان صريحا مع شعبه وأمته، أوجز أجاد في طرح رؤياه لما يحيط بنا كأردنيين وكأمة عربية مشلولة الإرادة- بكل أسف-.
لقد استطاع عبدالله الثاني، وخلال فترة لا تقاس ولا تحسب في عمر الدولة أن يحقق الكثير للأردن، سواء على مستوى الفكر التقني أو على مستوى الفكر السياسي، وانجذب الملك إلى ذلك العالم المذهل من العلم والتكنولوجيا وأراد للأردن أن يكون ضمن هذا الفلك، وكان له ما أراد، بالرغم من تمترسه على مشارف تنازع إقليمي غطى الساحتين المحيطتين به الشرقية في العراق والغربية في فلسطين. ولكن من موقع جغرافي عربي، فالكل يعرف التزام الأردن سواء بالقضية العراقية أو القضية الفلسطينية. وبالتالي فان العالم بكل أطيافه، قد سمع و سيسمع كلاما عربيا بينا وواضحا حول القضيتين من لدن جلالة الملك. ويعتبر هذا استثمارا أردنيا هائلا في الشان القومي، لا يدركه إلا الذين يعملون بصمت في سبيل مبادئهم السامية. لقد اتضح دون مواربة أن الدولة الأردنية والقيادة الأردنية ستظل دائما، وهو خيار تاريخي، تبحث عن الحالة الجمعية وتتبنى العمل القومي كأحد منطلقات العمل الإنساني، لما يخدم الأردن أمته الماجدة.
لقد حرص الأردن وبكل جدية على أن يكون، قدر الإمكان، الدولة النموذج في منطقة تموج بحالات من التمزق السياسي والاقتصادي، وجاهد حتى خرج من مأزق الدولة المهددة إلى الدولة المشاركة وبكل جدية في صناعة القرار الدولي.
وهكذا نعود على بدء إن الدولة صاحبة الحضور على الساحة الدولية لم تعد تلك الدولة كبيرة الحجم أو صاحبة الوفرة بل هي الدولة التي تستطيع إدارة الأزمة وتحسن وضع الخيارات وتعرف كيف تنقل خطاها في مواقع المعركة.
أن الأردن وكما سبق له اكثر من مرة قد اصبح دولة قلب سواء في النظام الإقليمي العربي أو النظام الإقليمي الشرق أوسطي واستطاع أن يحيط بأسرار اللعبة السياسية وان يعطيها من الاهتمام ما يجعلها تحت سيطرته لا أن يقع هو تحت امرتها ويسير حسب هواها.
إن الدولة في القرن الحادي والعشرين أصبحت دولة إنسانية اكثر منها دولة قطرية أو دولة إقليمية. تبحث عن الصالح العام متجاهلة ما يمكن أن يسبب لها ذلك من أتعاب أو معاناة. والأردن اختار هذا القدر وهو يدرك أن ما يدفعه إلى ذلك التاريخ والموروث والثقافة والحضارة التي انطلق منها قيادة وأرضاً.