تسابيح عراري عقب صلوات للفجر الطالع
ممدوح ابودلهوم
27-05-2007 03:00 AM
( إلى الأديب الشاعر ( خالد محادين ) .. على سرير الشفاء .. مع أطيب تمنياتي ) ( قنديل ) ؛
[ .. هل تريد أن تعرف ما هي قيمتك وقامتك فينا ؟
هل تريد أن تقع على أهمية إعراب جملتك الثقافية الإنسانية في كتاب الوطن بخاصة وفي سِفر الأمة بعامة ؟
هل تريد أن تتبيّن مكانك في القلوب والعقول وأوراقنا الأدبية ؟
أُحاولُ ، أبا سنان ، أن ألثم جرحاً وأُلطف حزناً ، لذلك لن آتي على مشهديّة بعينها تطيح بقمم الجبال ، فكيف بقلب أديب شاعر له رقة قلبك و ضوع قلمك ، حتى وإن كنتَ حريصاً أن تبدو دائماً ، وأعرفكَ قارئاً تلميذاً و صديقاً منذ قرابة عقود ثلاثة ، متحفزاً متوفزاً ترتدي بزة الفارس المحارب أمام الآخرين – المتطاولين منهم بخاصة ، آنئذٍ ، وقد شهدته غير مرة شهادة عين ، يستوي الصوت رعداً ضارباً هوناً والقلم سيفاً بتاراً حيدريَّ الفعل هوناً آخر ، أما المشهدية ، يا صاحب الصلوات ، فكانت وما زالت اغتيال هوى النهرين شهيد العرب والعروبة الخالد صدام حسين ، ما يعني إعداماً لآخر القلاع العربية و .. لن أزيد !
لكن وأعلم حجم الطعنة وأثرها الذي أقعد المحارب فيك على سرير الشفاء لا المرض ، وأسأله تعالى أن تمر كما مرّت حروبك القديمة ، وقد مُنعتَ من البوح غيرة مرة وإحداها حين كنت تكتب تحت اسم ( مروان الخال ) .
وبعدُ .. ولعلي أطلت ، فهاهيَ صلاة مواطن خلف إمامه صاحب ( صلوات للفجر الطالع ) ، وهي باب من روايتي ( أوجاع التطواف ) التي أهديتها لكَ وللحبيب المرحوم مؤنس الرزاز والأديب جمال أبو حمدان – كلٌّ في أفقٍ بعينه وكلٌّ لعملٍ مبدعٍ بعينه ، والتي استوقف التجريب التجديديُّ فيها الناقد اللبناني الفذ (د.جورج جحا ) – مع أنه لا يعرفني ، فسطرَّ عبر ( رويترز ) مادة نقدية نشرتها باللغات الثلاث معظم الصحف العربية ، بينما وكالعادة وهو مما بات في مألوفنا الثقافي الأردني ، لم يلتفت إليها أحد سوى الشاعر الصديق حسين نشوان والناقد الشاعر محمد ضمرة ، فقُمْ ، فارسنا أبا سنان ، رمزاً رابضاً و قلماً ضارباً ، وعُد بسرعة إلينا نحن بعض محبيك ومُريديك سالماً غانماً .. مع ( غِمر فريكة ) تبزُّ بركته طعمه الأحلى ، وكانت سنابله ( قبلُ ) تتراقص عراقة وفرحاً ، في سهل كريم من سهول الكرك الأبية في الجنوب الأشم من أردن الهواشم العظيم . ]
* * *
[ .. قد صلّى معكَ ذات كرامةٍ للفجر الطالع – الغائب ، الساعةَ ، بفعل أخدانِ العَتَمَةِ الأطلسية لكن بلون الدم !
هل تذكّرته ؟
هل تذكّرت شهادته ؟
هل تذكرُ مشهد تصفيقهِ لقصيدك ، و قصيدِ ( ابنِ زَيْ (1) ) في رحيل أُمه ، و صاحب ( عصافير الحذر ) (2) ؟
هل تذكره على مدرج كليّة الآداب ، و الكركيّ والعجلونيّ على الباب ، يحرسان أصيل القوافي (3) ؟
هل عرفته .. بعد إذ لم يعرفوه ؟
قال لهم مُنتسباً بأنه ما زال باقٍ على ما كان عليه صاحب الصلوات ، استنكروا هاجوا و ماجوا وأمروا بليلٍ ثقيل ، فسادَ و مادَ و استمعن في الشهادة صارخاً : باقٍ .. و لن أحيد !
باقٍ .. حتى لو سنّمتمُوني ذُرى ساحٍ ، كان سيكون منبرها لي و للطيبّين خِلاّني ، لو أنّها أشرقت من مشرقٍ نشمويٍ أصيل !
باقٍ .. حتى لو حطّوا صفري المسلوبَ في يميني ، ووضعوا هويتي المُدانة في يساري !
صفريّ المسلوب .. كيما أعود من جديد فأحيا حياتي المرادة ، فأطلُ من ثمَّ على صهوة جوادي ، على نقطة الانطلاق المرتجى لذاتِ السباق الباسلِ .. نحوَ قلبِ الوطن !
هويتي المُدانة .. أصيلةً ، بريئةً ، بهيةً ..كما حُضورِ نشميّةٍ من ( حِسبان ) ، تبذرُ خلف محراث ابن عمها المستبشر بموسمٍ قادمٍ .. بقمحٍ عميمٍ في صبحٍ عظيم ، لذيذةً .. مثل رائحة رغيفِ خبزٍ من قمحٍ عتيق ، خارجٍ لتوهِ من طابونِ بلقاوية أو من على صاج بدوية !
هويتي المدانة .. تعودُ عريقةً كما كانت ، فأعود بها لإصطفافي الحميم – المدانُ .. هو أيضاً ، ليس فقط لذات الأسف الغرناطيّ إياه ، بل وأيضاً لذات التكالب الخِرافويّ على خِراشٍ في داخلي المطحون !
قال لهم بأنه قد قرأَ ، قبل بائيّتهِ ( المِربديّة (4) ) ، أنّ :
( بُسطارِ شهيدٍ من بلدي / يبقى أطهرَ من كُلّ دواوين العالم ) (5) !
فقلت و .. سأبقى أقولُ كُلّما أَنشَد هذا : آمين ..ولا الخائنين !
قالها ، ثم دعا بعد ذلك .. دحنونياً ، بمجدٍ تليدٍ لنشامى وغدٍ أكرمَ لبواسلَ أحرار ولحرائر نشميّات !
باح لهم بالذي أخفى علّهُ خلاصاً يرى و .. لكن !
لم يسمعوا الدّالةَ ، أوا شاعرَ بلدي ، بعد إذ كذبوا الصلاة !
شدّوا لسانه بنسعةٍ فوثاقهُ .. مِن ثَمَ ، بحبلٍ من مَسَدهم المارجيّ كانوا يتمنطقون به وفي الأعناق ، واقتادوه إلى محطبةٍ لاهبةٍ تحاولُ كانت النارُ الهروبَ منها .. فما تستطيع !
وجاء في شهادته أنّهُ أنشدَ بلا صوت :
( ليتَ المآسي لمْ تعُدْ .. إذْ عادْ / لمْ تجثمْ على صدرِ العباد .. ) !
ثم .. علا نعيقُ غُرابٍ فنَعيبُ بُومةٍ فوق صوتهِ ، والذي خرج لحظتها مبحوحاً .. مقروراً ومخنوقاً !
وجاء في الشهادة بأنه قال لهم : فأنا ، يا أنتم ، صاحبُ الفكرة البيضاء ، الفكرة / الصيّحة التي تحاولُ أنْ تجوس في كلّ البلاد .. و لكن !
وجاء في الحكاية : لمْ يصل من نشيده المُطارد إلاّ هذه الكلمات .. وقد تقطعت حَسَرات :
( و بكوا على قبر الصباح / لكنّهم يا حلوتي لن يعلموا / إلاّ .. متى هبط المنون ) !
وقيلَ .. أيضاً ، بأن خانساً مُلوناً مأموراً منهم قد أمرَ طُغمةً منهم ، بأن : أدخلوا رمادَ نشيدهِ في عينيه ..فلا يرى !
وجيء بالسوط الغريب / الرهيب ، أما النارُ .. فأوقدوها بين يديّ الشهود : الغزاة / الحفل : الحضور !
بعد ذلك .. أوتيَ بِ ( ليلى ) كانت له .. ذات زمنٍ شعريٍ مُونقٍ ريّانَ الهوى !
وإذ صرخ صرخةً قيسيّةً حتى توقّف كُلُّ شيء ، إلا لسع النار وصدى رؤية ليلى ، رغم ما في عينيه من رمادٍ ودمٍ وقَذَى مسألتهِ الكبرى !
تراكضوا .. يتداعون لخنق الصيحة في المكان !
سمعوهُ لكنهم لم يفهموا لغة الصرخة ، هي .. وصلتها ، هي ذات البحّة الرخيمة حين كان ينشدها ذات أماسٍ دفيئةٍ غابت ، قوافٍ تُحدثُ زلازل لا ألذ ولا أحلى في خافقها العاشق !
فهمتها .. فكانَ رذاذ فرح سرعان ما انقلب شلالَ دُموع ، حين أكملَ باقي حروف الصيحة : إلاّها .. طاب موتي .. أينكمُ يا أهلي .. أموتُ أنا .. أناكم القابض ، وتعرفونني ، على جَمْرِ ما وراء أكماتِ ما قاله أمير الشعر في بلابل الدوح ..ما قاله هنديّ أحزان الصحراء (6) .. ما أنشدهُ صاحبُ أحدَ عَشَرَ كوكباً (7) ، وهو يحنّ إلى رائحة خبز أمه وفنجان قهوتها اللذيذ .. لولا جوع المعنى .. ألف آه يا يوميات الحزن العادي (8) !
طارت الكلمات مع كلماته ولم يبق من شلال الدموع ، إلا مساقطُ تسبحُ فيها جنيات الحكاية !
و إذ وصلوهُ .. بدأوا من جديد .. سيرتهم الأطلسية الأولى !
عرّوهُ من باقي حروف صيحته .. فكرته البيضاء العتيقة ، حتى بدت .. لكن لم تسؤهم !
ثم .. عرفنا ، بعدُ ، أنّ عِلييّنَ قد أمَرَت باستشهادٍ عراريّ .. فكان الرحيل !
كانت هناك يا صاحب الصلوات أقدامٌ .. جِيءَ بها حسْبُ ، لسحقهِ حتى الصفْريّة .. فطأطأت الهوية !
بحثَ عن فجركَ وقد تنادوا بطلوعه لكي يُصلّي فلم يجده !
ثم وما زلنا نقرأ في ذات الحكاية ، بأنه رغم موته الداخلي حين أعربوه بأنّه ظلٌ أو شيءٌ أو هامشٌ ، ما زال يبدو من على تخوم المكان في حزنٍ وعلى قلق ، يحاول دون جدوى أن يكون ولو نمراً من ورق ، فما زال يبحث عن فجر وطني عربي وبهي كيما يصلي ، وعن صفره المنهوب وهويته المسلوبة .. بأمر الغرباء الجاثمين ، فلم يجد إلا ذات الصدى اللعين !
ما زال يبحث في أتونٍ مارجيٍ لعين ، في لهبه الغريب .. كل ألوان الثعابين !!!]
* * *
1- محمد ناجي عمايرة .
2- إبراهيم نصر الله .
3- خالد الكركي و إبراهيم العجلوني .
4- نسبة إلى مهرجان (المربد) الشعري في العراق .
5- من دبوان ( صلوات للفجر الطالع ) للشاعر خالد محادين .
6- تيسير السبول .
7- محمود درويش .
8- مقالة + كتاب نثري لمحمود درويش .