شيء عن الأوطان المتحجرة والبيوت التي هجرها أهلها
سامر حيدر المجالي
08-12-2009 03:22 AM
هذا الكلام إهداء للذين يظنون أنفسهم هنودا حُمرا. هل تعرفون أن الوطن لا يموت قبل موت القلوب وخراب البيوت؟ إن كانت قلوبكم قوية فتأكدوا أن الوهن لن يصل إلى وطنكم.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
في بلدي صِرنا نبني البيوت من الحجر الأبيض. بيوتُنا مثل قلوبنا؛ سرُّها عميق، أمّا بياضها فصرخة ضمائر منهكة تبحث عن عين رضا في وجوه العابرين.
زمان كانت البيوت تُحْمَلُ على الأكتاف، أو على سنام الإبل وظهور البغال. كانت ترتحلُ مع أصحابها إلى المواسم المنتَظرة.كانت الحياة سَفَرا مع الربيع، وتحضيرا مستمرا ليوم حصاد يكتمل في ليلته القمر وتغدو السنابل مثل الرماح. كثيرون منكم لا يعرفون (أُمَّ الرماح) ولا بيادرَها، ولم يشاهدوا قاماتِ الرجال الذين تعلو بهم الرماح، طوعَ بنان وأكفٍ خشنة وقلوب تصافَتْ على المودة.
كانوا يسبقون الربيع شوقا للقائه. في قارص الشتاء يذهبون إلى الأراضي المنخفضة حيث يأتي الربيع مُبكِرا فتجود الأرض بخيراتها والسماء بلؤلؤ عيونها. أذكرُ مكانا من هذه الأمكنة اسمه وادي الموجب، يعرفُهُ البعض سُيّاحا وطالبي مغامرات. أما نحن فقد عرفناه أبا مَهيبا، وحضنا دافئا نلجأ إليه آمنين على نبض قلوبنا. هناك لليل طعم خاص وللفجر طعم أخص، ولكانون الحطب قرير وللحبات المشتعلة مَسيرٌ إلى السماء.
ثم يواعدون الربيع في مكان آخر ويحملون بيوتهم مرة أخرى، إلى النجود والمرتفعات هذه المرة. يسيرون طوعَ يد حانية تمسح على رأس أرض لم تكن قد عرفت معنى اليتم بعد، فتحيلها جنة خضراء. كانوا يسيرون مع التضاريس من شمس حارقة إلى نسمة باردة. كأنَّ الوطن يعلمهم أنه معانٍ متعددة، وأنه يكبر حين تتعدد تفاصيله وتتنوع فصوله. هناك في الأعالي تُنْصَبُ البيوتُ من جديد ويجود كلُّ ضرعٍ بماء الحياة. في زاوية من البيت مشرعةٍ على الجنوب يقطن كيس من الجلد تعوَّدَت أن تَهُزَّهُ أكفُّ الأصيلات؛ تكثيفا للخير الذي يسكن أحشاءه، واستجلابا لشربةٍ قراحٍ صافيةٍ، حلالٍ من حلال.
أي وطن هذا الذي نشفق على أرواحنا أن تتساقط حسراتٍ حين نتذكر في البُعد تفاصيله الصغيرة. آهِ لو نعرف قيمة الصمت حين يكون الكلام المنفوخ حجرَ نرد نتسلى به على ماء وجه الوطن.
حين كبرنا توقفنا عن الترحال وانطفأ كانون الحطب ولم يعد للحصاد مواسم. غادرنا بيوتنا فصرنا نمرُّ بأفراحنا مرور الضجرين وبأتراحنا مرور الجالسين على جمر الواجب! هذه البيوت البيضاء، الجليدية الصمّاء، أكوانٌ متنافرة تفصل بينها سنوات ضوئية. سلبناها أفراحنا.. استبدلنا الحزن بالقهر، ثم قلنا نعشقك أيها الوطن!
هذا الوطن تصنعه تفاصيل صغيرة ومشاعر بريئة. لا يمكن لك أن تعشق الوطن جملة واحدة، لا يمكن أبدا أن تُعَلِّبَهُ وتجعله مجموعة من الخطوط المتوازية والمتعامدة. حين تجعل الوطن علبة وتحشر كتلا من اللحم بين جدران مسرطِنة، تَذَكَّرْ أن هذا الشيء الذي تسميه وطنا لن ينجو أبدا من تاريخ الانتهاء.
فالأوطان مثل القلوب، يلزمها هواء نقي، وربيع، وأبواب مشرعة على نداء السماء....
Samhm111@hotmail.com