وزراء ونواب بقفص الاتهام في الأردن
نضال منصور
05-12-2019 05:22 PM
لا يبدو أن الدورة الأخيرة من عمر مجلس النواب الأردني ستمر بسلام وأمان من دون مفاجآت صاخبة. القصة هنا لا تتعلق فقط بأزمة اقتصادية طاحنة تفرض ظلالها على المشهد الداخلي. ولا ترتبط برغبة العديد من النواب رفع أصواتهم معارضة في اللحظات الأخيرة من عمر المجلس واستخدام لغة شعبوية تُكسبهم تعاطف الشارع أملا بالتصويت لهم في الانتخابات المقبلة، ويُتوقع أن تجري قبل نهاية شهر سبتمبر 2020. المُعضلة التي يمكن أن تُفرّخ أزمات هي ملف رفع الحصانة عن ثلاثة نواب، وطلب إحالة وزيرين سابقين إلى النائب العام.
النواب الثلاث، اثنان منهما ـ غازي الهواملة وعبد المحسيري ـ وجهت لهما اتهامات من هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، أما الثالث فهو النائب صداح الحباشنة، الذي وجهت له تهمة القدح والذم خلافا لقانون الجرائم الإلكترونية، في حين أن الوزيرين السابقين سامي هلسة، وطاهر الشخشير اتهما باستثمار الوظيفة.
أحال مجلس النواب هذه الطلبات المقدمة من الحكومة إلى لجنته القانونية لدراستها، وحتى الآن لا يُعرف مصيرها، أو التوجهات بالتعامل معها، وإن كانت التوقعات تُشير إلى أن القرارات مهما كانت ستزيد من الإشكاليات التي ستواجهها الحكومة في التعامل مع مجلس النواب.
يشترط الدستور الأردني في محاكمة رؤساء الحكومات، أو الوزراء العاملين، أو السابقين أن يُعرض الأمر على مجلس النواب للتصويت بالموافقة على إحالتهم إلى النائب العام؛ وقُبيل تعديل الدستور عام 2011 إبان "الربيع العربي" كانت محاكمة رؤساء الوزراء والوزراء سواء كانوا على رأس خدمتهم أو سابقين، لا تتم إلا أمام المجلس العالي لمحاكمة الوزراء ـ وهي هيئة غير قضائية يرأسها رئيس مجلس الأعيان "الغرفة الثانية من مجلس الأمة الأردني".
ينص الدستور الأردني في مادته (86) "لا يوقف أحد أعضاء مجلس الأعيان والنواب ولا يحاكم خلال مدة اجتماع المجلس ما لم يصدر قرار من المجلس الذي ينتسب إليه بالأكثرية المطلقة بوجود سبب كافٍ لتوقيفه ومحاكمته، أو ما لم يُقبض عليه في حالة تلبس بجريمة جنائية، وفي حالة القبض عليه بهذه الصورة يجب إعلام المجلس فورا".
تُثير طلبات رفع الحصانة عن النواب اتهامات وأسئلة كثيرة داخل أروقة مجلس النواب، وينظر لها بعضهم على أنها مصيدة لضرب صدقية المجلس وتشويه صورته أمام الشارع، ويتساءلون لماذا لم تلاحق السلطات القضائية النواب خلال الإجازة القضائية، وهم لا يتمتعون بالحصانة؟ ولماذا تحركت أجهزة إنفاذ القانون ـ على سبيل المثال ـ لملاحقة النائب غازي الهواملة قُبيل يومين من بدء الدورة البرلمانية العادية، وهو ما دفعه للتخفي؛ خشية إلقاء القبض عليه؟
فتحت المطالبات برفع الحصانة عن النواب الباب نقاشا موسعا حول إجراء تعديل دستوري يقصر حصانة النائب بما يتعلق بممارسة عمله البرلماني، ولا يجوز أن تمتد لما هو خارج هذا النطاق. ويطرح كتاب وسياسيون أسئلة عن مشروعية منح حصانة لنائب عن اتهامات له متعلقة بجرائم مالية، ويرون أن ذلك يعطل المسار القضائي، وسيادة القانون، ويحصن النواب أو الأعيان في مواجهة مساءلتهم.
في المقابل، فإن المصرين على الحصانة التي منحها الدستور ينتقدون أن النص الدستوري لم يوضع جزافا، وإنما جاء لتمكين مجلس الأمة من ممارسة دوره بحرية، وحتى لا بتعرض "لمكائد السلطة التنفيذية"، واستخدام الاتهامات للنيل منه ومقايضته على مواقفه.
في جميع الأحوال، حتى وإن كانت نية الحكومة وأجهزتها إجراء تعديلات دستورية، فإن تمريرها في الأشهر الأخيرة من ولاية مجلس النواب تبدو صعبة المنال.
رفع الحصانة عن النواب أو الموافقة على محاكمة الوزراء أمر لا يدفع للدهشة والاستغراب؛ وفي تاريخ الحياة البرلمانية الأردنية منذ عودة الحياة الديمقراطية عام 1989 وحتى الآن قصص وحكايات تتسع الذاكرة لاستعادتها وروايتها، بعضها أحدث قلقا وألما، وبعضها الآخر كان صادما ومضحكا.
أول القصص التي لا تُنسى كان تصدي مجلس النواب للتحقيق فيما سُمي "قضية الجفر" واتهم بها زيد الرفاعي، أكثر رؤساء الوزراء السابقين نفوذا في عهد الراحل الملك الحسين، واتهم معه وزير أشغاله آنذاك محمود الحوامدة، وبعد نقاشات مثيرة تحت قبة البرلمان قرر مجلس النواب تبرئة الرفاعي بفارق صوت واحد، وتوجيه الاتهام لوزيره الحوامدة، وأحيلت القضية للمجلس العالي لمحاكمة الوزراء.
وقبل أن تزول صدمة ما حدث جاءت قضية القبض على النائب المعارض والأكثر شهرة ليث شبيلات ورفيقه يعقوب قرش واتهامهما بالتآمر ضد نظام الحكم في القضية التي عُرفت باسم "النفير"، وبمعزل عن ملابسات المحاكمة التي أنيطت بأمن الدولة، والاتهامات بتزوير واختلاق الحقائق، وما أثير عن استدعاء شهود زور؛ فإن الحكم على شبيلات وقرش بالإعدام كان الأكثر صدمة، والأكثر خطورة في الحياة السياسية البرلمانية.
تفاصيل هذه القضية لا تغيب عن ذاكرتي فقد كنت حينها مدير تحرير الصحيفة الأكثر انتشارا في الأردن "شيحان"، وتابعت تفاصيلها لحظة بلحظة، وكتبت مرافعة صحفية قُبيل صدور الحكم بعنوان "الشبيلات الغائب الحاضر" مرفقة برسم لحنظلة الذي كان يستخدمه رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي مع استبدال وجهه بوجه شبيلات.
الشبيلات لم يكن معارضا عاديا، والحكم بإعدامه ليس قرارا عابرا بمكن أن يمر بسهولة، خاصة في بلد لم يسجل على نظامه إعدام، أو قتل، أو إخفاء معارض سياسي، ولهذا لم يطل العفو الملكي العام الذي أعاد الشبيلات حرا وجبَّ الجريمة من أساسها.
قصص الشبيلات، نجم المعارضة لا تنتهي، ففي عام 1996 أعيد سجنه بتهمة إطالة اللسان على الملك الراحل الحسين، ولكن الأكثر دهشة كان ذهاب الملك إلى السجن، وأمر بالإفراج عنه واصطحبه بسيارته إلى منزل والدته، وتكرر المشهد مرة ثالثة بتوقيفه وسجنه بعد أحدث معان، وحين أعاد الملك الحسين إصدار عفو خاص عنه رفض شبيلات الخروج، وأصر على إكمال مدة السجن.
الصراع في الأردن حتى وإن اتخذ أشكالا قاسية، كان ينتهي بالغالب بمصالحات تسعى إلى تضميد الجراح ووأد الأزمة. ومن القصص التي اتسمت بالمكاسرة سجن نائبين من الحركة الإسلامية ـ الإخوان المسلمين ـ بعد اتهامهما بإثارة النعرات المذهبية، وتعكير الوحدة الوطنية؛ إثر قيامهما بالتعزية بالقيادي في تنظيم "القاعدة" بـ "أبي مصعب الزرقاوي" الذي قتلته القوات الأميركية في العراق.
لم يبقَ النائبان في السجن طويلا، وصدر قرار بالعفو عنهما، وتكرر الأمر مع النائب السابق توجان فيصل التي اتهمت بالمس بهيبة الدولة، وإذاعة أخبار كاذبة، وسُجنت ومُنعت من الترشح للانتخابات مرة أخرى، لكن أيضا جرى العفو عنها وإطلاق سراحها.
من القصص الأكثر مدعاة للخجل والضحك والتي لن يطويها النسيان، تصويت النواب في المجلس السابق على فصل ورفع الحصانة عن زميلهم طلال الشريف بعد أن هدد وطارد زميله قصي الدميسي بسلاح "كلاشينكوف" داخل أروقة المجلس.
ليست كل الاتهامات والقصص مقتصرة على النواب وخاصة المعارضين منهم، فالاتهامات وصراع التصفيات والضرب تحت الحزام قد يمتد لرجال السلطة، أو قد يكونون "كبش فداء"، فرئيس الوزراء الأسبق معروف البخيت، ووزير السياحة الأسبق أسامة الدباس اتهما بما عُرف بقضية "الكازينو"، وقد صوت مجلس النواب على تبرئة الرئيس البخيت، واتهم الدباس، وخضع لمحاكمة انتهت ببراءته.
وحتى الآن فإن وزير المياه الأسبق منير عويس ما يزال يمثل أمام محكمة أمن الدولة في القضية المثيرة للجدل، والاتهامات، والتي شغلت الرأي العام "الدخان".
إذن يتكرر المشهد أمام مجلس النواب الحالي، فهم مطالبون برفع الحصانة عن زملاء لهم، وبذات الوقت بالموافقة على إحالة وزيرين سابقين إلى النائب العام.
لا ينظر بعض النواب إلى هذه القضايا باعتبارها إجراءات قانونية صرفة، بل يعتقدون أنها لا تخرج عن سياق الصراع السياسي، وتوظيف القانون في معارك السلطة، ويرون أن هذه الأزمات والاختبارات التي تصنعها الحكومة تهوي باستقلاليتهم، وتضيق الخناق عليهم، وتحرق ما تبقى من شعبية لهم.
وزراء ونواب في قفص الاتهام هذه حقيقة. قد ينجو بعضهم، وقد يخضع آخرون للملاحقة والمحاكمة؛ غير أن الأزمة تتعمق، والنواب الذين سيصوتون ويتخذون القرار يشعرون أيضا أنهم في قفص الاتهام والملاحقة.
(الحرة)