بعد أن أعادت العزيزة الرأي نشر مقال «عيناك كيف لا تنفجران» لاحقني سؤال هو: هل ستعود إلى الكتابة؟! وبالإضافة للسؤال فاجأني مقدار الاهتمام بذلك المقال وأذكر بشكل خاص مقال الزميل «هبوب الجنوب» على أحد الموقع الإخبارية والذي عكس مشاعر طيبة وحارة مستنداً إلى قاعدة ثقافية وابداعية، فله كل الشكر، وكل الشكر والامتنان كذلك لكل الاصدقاء والزملاء الذين تواصلوا معي وأسمعوني كلاماً يسر الخاطر وجميعهم سألوني اذا كنت ساعود للكتابة المنتظمة وتمنوا علي أن افعل، وأكثرهم ناشدني وحثني على أن أكف عن الصوم عن الكتابة.
وأذكر أنني قلت للزميل الصحفي البارز بسام بدارين المميز بمهنيته العالية واجتهاده الذي حضني بقوة أن أعود للكتابة، فقلت له عندما تواصلنا مفسراً موقفي هو أنه كان في العقود الماضية بيت العزاء في قرانا ومجتمعاتنا المحلية يدوم أربعين يوماً وربما أكثر وهناك عزاء خاص «للنسوان» واسمه «المدالة» تظل منعقدة طوال فترة العزاء تدلف له من تجد عندها متسعاً وتساهم في وصلة بكاء ونواح وتغادر وتعود حسب انشغالاتها الكثيرة، وقصدت استخدام لفظة «نسوان» كمعنى فنحن في زمن وحالة الكل فيها «نسوان» ونحن في وسط «مدالة» منعقدة في طول وعرض هذا الوطن ولذلك رأيت أنه كل ما اسود الزمان علي أن أدخل «للمدالة» و«أعج الصوت» من خلال المقال المشار إليه.
ومن حق الاصدقاء والزملاء خصوصاً أن أجيب على سؤالين الأول لماذا توقفت عن الكتابة والثاني ما هو السبب المباشر لكتابة هذا المقال موضع التساؤل، ولا بد أن أشير ابتداء أنه كان لدي عشق وشغف بالحرف منذ تفتحت عيني على الحياة وبدأت الكتابة للصحف منذ الإعدادية ولكن ابتداء من العام 1967 عندما كلفت مع ثلاثة زملاء باصدار «جريدة القدس» ودمج الصحف والاكتفاء بإصدار جريدتين هما «القدس» التي كانت تصدر في مدينة القدس والدستور التي كانت تصدر في عمان وتلك قصة طويلة كنت في قلبها، وكنت أنشر في «القدس» مقالاً يوميا إلى أن حدثت الفاجعة يوم الهزيمة المنكرة في 5 حزيران 1967 حيث عدت إلى عمان فعرض علي الزميل الكبير إبراهيم سكجها أن أكتب مقالاً شبه يومي في جريدة الدستور، وانتظمت بذلك إلى أن صدرت الرأي في العام 1971 وكنت أكتب فيها مقالا يومياً في الشأن المحلي تحت زاوية «صباح الخير» وكانت لغة المقال انتقادية قاسية واتهامية وتعرية فضائحية لمسؤولين ولحالات...الخ وهو أمر كان غير مسبوق في الصحافة الاردنية وكانت الدنيا تقوم وتقعد كل صباح مع هذا المقال فالناس تحب الإثارة والتشفي!!
وآسف للشطحة السالفة لأعود للجواب عن سؤال لماذا توقفت عن الكتابة ففي 24/ 11/ 2011 تم اختياري وزيراً للدولة لشؤون الاعلام، ويومها كتبت مقالي الأخير في الرأي و«الدستور» معاً تحت عنوان «من الصحافة إلى السياسة» وكنت أحسب قبلاً أن الصحافة ستكون كل عمري وأنني راهنت بحياتي على هذه المهنة، وفي هذا المقال أشرت انني سامضي ما تبقى من حياتي في «عالم السياسة» ولا أدعي أن أبواب عالم السياسة كانت مفتوحة أمامي ولكن كانت هنالك عروض وفرص ولكنني كنت تعاهدت مع نفسي أن لا اقبل اي عمل بلا شروط أو مستوى وكنت محظوظاً عندما عرض علي الصديق عون الخصاونة اشراكي في وزارته لحقيبة الإعلام وقد كنت محظوظاً أن أعمل مع رجل مشهود له بالنزاهة والنظافة إلى حد الطهارة وهو ايضاً صاحب ثقافة موسوعية وشخصية قانونية وسياسية ودولية، ومتأكد أنني لن أضيف أي ميزة لما تعرفونه عنه من طيب السجايا والمزايا.
وقد وفر لي دولته غطاءً كاملاً وبمباركة من جلالة الملك أن اصوغ خطاباً إعلامياً سياسياً لتلك المرحلة لا يعكس فقط صورة رجل وحكومته التي تعمل بأخلاص، ولكن بما يعكس الجوانب الإيجابية لصورة الدولة الأردنية ونظام الحكم وقيادته عبر التفاعل الإيجابي المتبادل مع الشارع الملتهب آنذاك، وألزمت نفسي بالتفرغ للسياسة وذلك بعد اكثر من نصف قرن من الكتابة اليومية والاسبوعية والتحليلية والتغطية الإخبارية في الصحافة الاردنية والعربية.
وأعود إلى السؤال الثاني والسبب المباشر الذي املى علي اعادة نشر هذا المقال، ففي يوم الجمعة 15/ 11/ 2019 كنت جالساً قبل صلاة الجمعة اتأمل الأحوال فتذكرت أنه في يوم الجمعة 15/ 11/ 1973 أقدم صديق العمر يومها المرحوم تيسير سبول على إطلاق رصاصة على رأسه وودع الحياة، وفي اليوم التالي كتبت مقال «أنعي لكم تيسير سبول» وفي اليوم الذي تلاه أفردت الرأي أكثر من صفحة لنشر مقالات لكل اصدقاء تيسير من الكتاب والمفكرين وهم كثر وأذكر أنه بعد رحيل تيسير بأسابيع قليلة زارني الزميل اسامة فوزي يوسف وكان قد كتب كتاباً عن تيسير سبول وواقعة انتحاره ويومها قال لي اسامة إنه زار المرحوم سليمان عرار الذي كان مدير عام ورئيس تحرير الرأي ونقل إليه ادعاء أحدهم بأنه لو كان سليمان عرار موجوداً في عمان لما سمح بهذه التغطية الواسعة لـ الرأي لحادثة انتحار تيسير سبول وقال لي اسامة إن سليمان عرار قال له إن ذلك الشخص لا يعرف تيسير وإنه لو كان موجوداً لحصلت نفس التغطية مضيفاً انه في كل امر يتعلق بالتحرير موكل كلياً لراكان. واعود لما حدث معي قبل اسبوعين لاذكر انني يوم 15/ 11/ 2019 اطلقت صرخة موازية لرصاصة تيسير وعلى هامش ذلك اسمحوا لي ان استظرف معكم حول موقفين كانا فوق طاقتي واحسست خلالهما ساعتها انني في مأزق وكان احدها وثانيها انتحار تيسير في ظل غياب المرحوم سليمان عرار عن عمان يومها وكان صديقاً لصيقاً لتيسير مثلي، ويومها كان علي ان اتحمل قرار تغطية انتحاره مدفوعاً بالعاطفة الشخصية وصحيح انني عملياً ومنذ صدور الرأي كنت رئيس التحرير التنفيذي تحت اشراف استاذي واستاذ جيل من الصحفيين المرحوم محمود زين العابدين، واقول انه مأزق لانه لم يكن لي صفة او مسؤولية رسمية لاخذ قرار بشأن استثنائي كهذا.
اما المأزق الاول الاخر فهو اصعب ففي 28/11 1971 تم اغتيال الشهيد وصفي التل وصادف كذلك ان المرحوم نزار الرافعي المدير العام ورئيس التحرير لـ $ آنذاك كان مسافراً وكانت $ يومها الوسيلة الاعلامية المؤثرة وكانت بحق اداة قتال فعالة بيد الدولة التي تملكها ويومها اجتاحني حزن مزلزل سببه الاغتيال وكانت صدمة عنيفة لقرب الشهيد من قلبي ولكن لم يكن علي الا ان اتماسك وزاد ثقل العبء علي ان استاذي اللبناني محمود زين العابدين قال لي ان هذا الامر شأن اردني خالص وما عليك الا ان تقود عملية تغطية الحدث الجلل وحدك، وما كان امامي الا ان استعين بالمرحوم ابراهيم الحباشنة وزير الداخلية حينها وصديق وصفي الحميم حيث داهمته بالخبر وهو في حفل تأبين وطلبت منه بحكم قربي منه ان يتكرم بالقدوم للجريدة ليساعدنا بانجاز تغطية مميزة بما يعكس تطلعات الدولة لتغطية هذا الحدث الرهيب ووعدني بذلك لكنه مع الاسف انشغل باجتماعات في الديوان الملكي الى ساعة متأخرة من الليل وما كان علي الا ان اجتهد بانجاز تغطية الحدث وقد كانت اشد عقد المأزق دقة وارباكا ان اتنطع لكتابة افتتاحية الرأي بالمناسبة التي تعبرعن رأي الدولة بالحدث في هذا الجو العاصف سياسيا. وكان المعروف ان هنالك عددا من الزملاء يتناوبون على كتابة الافتتاحية اليومية للجريدة في الايام الاعتيادية. ولكن هذا حدث استثنائي يحتاج لافتتاحية استثنائية فكتبت تلك الافتتاحية في ظل انهماكي باعمال التحرير الاخرى وشجعني على ذلك تأكدي ان الصديق ابراهيم الحباشنة سيأتي للجريدة مهما تأخر الوقت وانني ساعتبر ما كتبت مسودة واترك له اعادة صياغتها وكان العنوان الذي وضعته للافتتاحية يومها هو «مصرع الرجل القوي » وجاء الاخ ابراهيم وقد فاجأني بتأكيده ساعتها بعد ان قرأ الافتتاحية انها افتتاحية جيدة و...و...و ولا يمكن اضافة حرف او شطب حرف منها والصحيح ان هنالك مرات عديدة كتبت اشياءً كثيرة لا اصدق عندما اقرأها في ما بعد انني الذي كتبتها و منها تلك الافتتاحية.
وختاماً وبعد كل هذه الثرثرة فأنا لا أضمن إذا ظل في العمر بقية أن لا أعود إلى تكرار نشر المقال السوداوي الذي هو موضوع حديثنا اليوم.
الرأي