صورة الشيخ زايد في الصحافة .. باني نهضة وقائد حكيم
إبراهيم السواعير
30-11-2019 11:30 PM
ودولة الإمارات العربية المتحدة تحتفل بعيدها الوطني، فإنّ الحديث عن شخصيّة الشيخ زايد رحمه الله، من منظور الصحافة العربية والعالمية، تحديداً، وغيرها من وسائل الإعلام على وجه العموم، يستلزم الوقوف على المسافة بين الحُلم وتحقيقه؛ بمعنى أنّ "داتا" كثيرة قد يصعب حصرها، في هذه العجالة، فإن نحن قرأنا الحكمة عند "حكيم العرب" وجدناها في المؤشّر السياسي والنظرة بعيدة المدى لما ستكون عليه الدّولة، منذ إرهاصات ما قبل الاتحاد، وفي فترة السبعينات التي كانت امتحاناً حقيقيّاً للرجل رحمه الله، في أن يوائم بين متغيرات كثيرة على السّاحة المحليّة والعربية والعالميّة، بما في العالم من متغيرات ونذر حرب، وعدم استقرار، ولذلك فقد كان شديد التوجّس أمام أيّ جرحٍ عربي يتّسع أو سوء تفاهم ينشأ بين الأخوة العرب، لعلمه بمدى التأثير الكبير على المنطقة العربية بِكُلّها، فإن نحن أتينا على ذكر حالة اليقين التّام بالأصالة والجذر التراثيّ القويّ الذي لا بد وأن يتخلل كلّ نجاح، تداولنا بالتأكيد عنايته بكلّ مفاصل البداوة في سياق معاصر، وما أعظمها من رؤية لمجتمع وجد النفط حاضراً، فكان حافزاً لأحد طريقين: نسيان الماضي والانسياب، أو التقدّم بخطوات مشحونة بدماء الأصالة، والخيار الأخير كان مناسباً جداً لشخصيّة زايد رحمه الله، وهو الخيار الذي ما تزال تبني عليه الإمارات كلّ أدوارها الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة.
وفي الحديث عن موضوع صورة الشيخ زايد في الصحافة ودوره في بناء الدولة، ننطلق أولاً من حالات الإعجاب والاحترام والثقة التي كان يحظى بها رحمه الله عند الحديث عنه؛ خصوصاً حين كان يسابق الزمن لنزع فتيل حرب، أو لتدارك ما يمكن تداركه أو لتسويةٍ ما، وقد عَدّته الصحافة بمعنى أو بآخر خبير مفاوضات وقديراً في فضّ النزاعات، والفرق بينه وبين كثيرين أنّه إنّما كان ينطلق نحو ذلك مدفوعاً بإنسانيّته وغيرته على اللُّحمة العربيّة، وحسّه الأصيل أمام حالات الفقر والحروب والأمراض والمجاعات العالمية التي اجتاحت بلداناً وأقاليم عديدة.
وحين وصفته صحيفة النيويورك تايمز بقولها إنّه، رحمه الله، ابن قبيلة بدوية، صار إلى رئاسة اتحاد عُرف بالإمارات العربيّة المتحدة، وبات في الطليعة من رجال الدولة في العالم العربيّ، ورمزاً جسّد مسيرة التطوّر والنموّ المذهلة لبلاده ومنطقته،.. فإنّ في هذا الوصف دليلاً على عظم مكانة "زايد" ومنزلته في نفوس الصحفيين والإعلاميين، وحزنهم عليه حين وفاته عام 2004، خصوصاً بعد كلّ هذا الأرشيف الكبير الذي تركه الشيخ زايد إرثاً وقصص نجاحٍ ما تزال تُروى للأجيال من بعد.
إنّ حالة اليقينيّة بالنجاح وجدواه هي حالة نفسيّة ومهمّة جداً ظلّت متأصّلةً لدى الشيخ زايد رحمه الله، وهي سبب نظري مهم جداً في كلّ نجاح سار إليه، وسارت إليه المنطقة، ولذلك فقد انطلق واثقاً، وبالرغم من سنّه المتقدّم قياساً إلى كثيرٍ من القادة، وهو من مواليد 1918، إلا أنّ شعوره الأبويّ لم يكن ليبقيه في عزلة عن عنفوان الشباب، بل كان حافزاً لأن يوزّع الفرحة والابتسامة على الجميع، مُدركاً بأنّ دولة الإمارات العربية المتحدة التي نشأت من تفكيره الدائم وإحساسه بأهميّة الوحدة، سيكون لها دورٌ كبير تؤدّيه على مستوى الخليج والمنطقة العربية والعالم، ولذلك فقد كان التطبيق مبنياً على عمق الأسس النظريّة وإيمانه بها، لِتكون صفة مؤسس الدولة وفكرها الوحدويّ علامةً سياسيّةً بامتياز لـ"زايد" عند تناول منجزه على مستوى الدّولة، فضلاً عن منجزاته العربيّة والعالمية بطبيعة الحال.
وإذا كان من معطيات ومؤشّرات لما تقدّم؛ فإننا يمكن أن ندلل بعيّنة من تحركات مشهود للشيخ زايد رحمه الله فيها، من مثل تكريسه كلّ وقته لإنهاء الحرب بين العراق وإيران، وفي ما بعد محاولاته المكثّفة والشفوقة أمام غزو العراق للكويت، وإيمانه بأهمية الحوار السياسي المفضي للسلام، وعدم يأسه حتى والأمور تصل إلى حائطٍ مسدود، بأنّه ما يزال لديه ما يفعله قُبيل حالة الانزلاق في الحرب، خصوصاً في موضوع كارثي قُدّر له أن يكون بين جارين عربيين هما العراق والكويت.
وحتى في تصريحاته الصحفية، فقد كان مؤمناً بأنّ الخلافات بين الأخوة العرب هي سحابة صيف عابرة، ولذلك، فقد كانت الصحافة تنظر إليه فاعلاً جداً، حتى في حالات ما بعد الحرب، إذ كان يتألم لـ"موت عبثي" لا بدّ من وقفه بين صفوف المجندين العراقيين، وهو يعمل للانسحاب، وأيضاً لاستقبال اللاجئين الكويتيين والسخاء الأخوي الكبير في تقديم المساعدات كافّة، لهم ولكلّ الآسيويين العاملين اللاجئين، مثلما كان ينطلق من أنّ دوراً مهماً للقوات الإماراتية المسلحة في حفظ السلام في المناطق التي كانت تشهد أزمات دولية، ولذلك فقد تبنى سياسات التوافق وسحب فتائل المواجهة والنزاع..
وفي الجانب السياسيّ كان له حضوره الكبير في قضيّة فلسطين وتبعاتها الإنسانيّة، وفي تداعيات الأزمة اللبنانية في الثمانينات عقب الاجتياح الإسرائيلي، وفي تسوية الخلافات بين المغرب والجزائر، ومصر وليبيا، وقد نظرت الصحافة العربية والعالمية للشيخ زايد بأنّه صاحب حسّ إنساني، تشهد على ذلك مجاعات إفريقيا وأمراضها وأوبئتها، وما بذله من مالٍ طائل أمام هذه الحالات الإنسانيّة، خصوصاً أمام كارثة البوسنة المحزنة والتطهير العرقي في التسعينات، وله وقفات مشهودة في الأزمة بين اليمنين، بل إنّ للشيخ زايد تصريحات نقلتها الصحافة، عبّر فيها عن استيائه لأوضاع مؤلمة في أزمة البوسنة؛ إذ دأب على إصدار بيانات شديدة اللهجة في أبوظبي يدعو فيها المجتمع الدولي إلى العمل على وقف ما يجري من أعمال شائنة، وقد جاء في أحد تلك البيانات الصحفية كلامٌ صريح ولافت مفاده أنّ العالم الغربي الذي طالما تحدّث عن حقوق الإنسان ولم يكف يوماً عن المطالبة بتطبيقها في كل مكان من العالم، يبدو أنه ينسى هذه الحقوق وأصحابها في البوسنة...فالضمير الجماعي للعالم يبدو أنه تلاشى كلياً وبات أشبه بالآلة الميتة.
وما تزال الصحافة العربية والعالمية تذكر ما قام به الشيخ زايد من دفع ثمن ملايين الأطنان من الحبوب التي شحنت للصومال؛ إذ كان يدرك رحمه الله أنّ الصوماليين قد أثّر نسيجهم القبلي على ثقافتهم الواحدة ودينهم الواحد، فلا بدّ من الإغاثة والحضور الإنسانيّ أمام هذا الْمُستَجَد الإنساني.
والنظرة ذاتها التي كان العالم ينظرها تجاه زايد في تعامله مع محيط كان شاهداً على الحربين الأولى والثانية، وحتى بعد كون العالم أحادي القطبية- زوال الاتحاد السوفييتي- وفي تعامله مع محيطه العربيّ،.. كانت هي النظرة التي يقيسون بها نجاحه رحمه الله في اشتغاله على الدولة من الداخل، فالجيش الذي هو درع البلاد وحاميها هو أيضاً حافظ للسلام متى ما استُغيث به، واقتصاد الدولة وتنامي ميزانية الاتحاد كانت جلّ عنايته، واستيراد التكنولوجيا أيضاً وزراعة مساحات كبيرة من الأراضي، جميعها كانت أموراً مهمّة، بل إنّ العناية بالمرأة وفتح آفاقها الإنسانيّة كان هدفاً ورؤية للشيخ زايد رحمه الله، إذ جعل لها منتديات ثقافية واتحاداً ووسّع من مدى أعمالها، وكلّ هذا كان له مردوده القيّم في ما بعد. أما التراث، فكان رابطاً لم ينقطع في كلّ الهيئات الثقافيّة والتراثيّة التي تسير على خطى ثابتة وهي تصدّر للمجتمع كلّ هذا الوعي بالماضي والثقة بالحاضر والفرحة بالمستقبل المضيء بإذن الله.
أمّا عمله الدؤوب في مجال التعاون الخليجي، فتظهره تصريحاته الصحفية، إذ قال الشيخ زايد عام 1974 للديار اللبنانية ما يؤكّد أنّ الوحدة الخليجية حقيقة لا مجرّد مجاملات شكليّة، لكنّ التحقيق الفعلي يتطلب مناقشات هادئة، بحيث يطمئن كلّ خليجي إلى أنّ الوحدة في صالحه، مثلما كان أكّد للرأي الكويتية أنّ شعب الخليج شعبٌ واحد، وأنّ ركائز الإمارات هي: الخليج، والعالم العربي، والعالم. ولذلك فقد كان يولي مصلحة بلاده ومصلحة البلاد المصدّرة للنفط عنايته في استقرار الأسعار الكفيلة بمصلحة الجميع.
نعم!.. إنّها قصّة نجاح قائدٍ عظيم وسياسيٍّ حكيم ووطنيٍّ مخلص ومؤمن شديد الثقة بتاريخه وأرومته العربية وعالمه الإنسانيّ... نستذكره اليوم في "عام زايد" وقد ترك لنا رحمه الله كلّ هذا الإرث الكبير محلّ الاعتزاز والاحتفاء والتقدير والاحترام.