سلامة جدعون .. نفد الزيت وانطفأ السراج
ابراهيم السواعير
28-11-2019 01:36 AM
"سلامة جدعون"..الرجل الذي كان مجرّد ذكر اسمه يوحي بالخوف والطمأنينة معاً: بالخوف لأنّ أيًّا منّا لم يكن ليجرؤ على مناقشته في مسألةٍ لغويّة، في النحو أو الصرف أو الإملاء، بل وحتى في الشواهد والشوارد، ومما تسلّحت به ذاكرة "أبو مازن" من تراثٍ قديمٍ،.. أمّا الطمأنينة؛ فلأنّ سلامة جدعون بابتسامته الهادئة وأخلاقه العالية ظلّ يتخرّج على يديه محررو صُحف وشعراء وأدباء مطبوعون، وكانت الجريدة في اليوم التالي تروق كلَّ الرَّوْق لقرّائها، لأنّ ذائقةً فريدةً كانت وراء عناوينها وسطورها؛ وتحديداً حين تزدحم لدى المحرر الناشئ أو العتيق البدائلُ، أو حين تنسدّ أمام عينيه الآفاق في عملٍ سريعٍ لا يحتمل التأجيل!
ولأنّ الكبار والمخلصين لا يصبر عليهم الزمان؛ إذ يغادرون إلى ملكوتٍ غير الملكوت، وفضاءٍ أوسع من حبس "الوظيفة" ومضمارها الضيّق الماحق في التنافس مع الصِّبْية أو الأدعياء،.. فإنّ أبا مازن يمضي نهار الجمعة إلى مثواه الأخير في كنيسة المقبرة بأمّ الحيران بعد سبع وسبعين شمعة، ويداه مبسوطتان: يدٌ تلوّحُ لشطنا، التي ولَدَتْه عام ثلاثةٍ وأربعين وتسعمئةٍ وألف، ويدٌ تودّع أصحابه وتلامذته والمحبين والأصدقاء ومن سار سيرهم في الاحتفاء بـ"الضّاد" التي ذُبحت من الوريد إلى الوريد في عصرٍ لم ينشأ عليه أبو مازن، الذي راكم أربعةً وخمسين عاماً معلّماً في مدارس إربد، وظلّ يحيل الأجيال إلى اللغة الأصيلة التي حاز فيها الماجستير وكان على موعدٍ مع الدكتوراة لولا أنّ يد المنون طالته وهو يتهيّأ لدخول عتبةٍ جديدةٍ، وفتحٍ مبينٍ في معجم "ألفاظ الحياة الشعبيّة الأردنيّة" الذي أطلعني على رؤيته فيه وهدفه من خلاله، مستثمراً عيد الأضحى أو الفطر الذي كان أول المهنئين فيه لأصحابه من رؤساء التحرير والصحفيين والعاملين في التحرير وسدنة اللغة في هذه المؤسسات وكلّ الوسائل الإعلامية التي ستفتقد صباحه في ما يستجدّ من مناسبات، وهو يبارك بلغته القويمة المهذّبة الرشيقة الطيّبة على الأسماع من غير تكلّفٍ أو ثقلٍ أو برودةٍ واجترار.
لم يكن سلامة جدعون ينظر للغة فاعلاً ومفعولاً أو جارّاً ومجروراً؛ بل كان أبعد عن "معلّم الصبيان"، إلى من يغوص في فقهها ودلالاتها وكنوزها، ولذلك فقد رأى ببصيرته وحسن تقديره أنّ جمهرة الصحفيين ربما يخطؤون في كتاباتهم من حيث لا يعلمون، فقصدهم نبيلٌ وبريءٌ عما تحمله هذه اللغة من ترادفٍ اختصت به دون غيرها من الألسنة واللغات، فكان أن نهض "أبو مازن" يضيء على لغة التحرير إضاءاتٍ ذكيّة في كتاب؛ انتصافاً للمعنى لكي يكون مقبولاً لدى النخبة من الأكاديميين وأبناء اللغة ممن تأسسوا عليها، غير مكترثٍ لمن يقول إنّ لغة الصحافة عليها أن تتردّى في شكلها فتترخّص في شرائع أصيلة، ليفهمها الجميع، في حين أنّ هذه اللغة التي كانت تُكتب بلغة أدبيّة ومعبّرة في فترات سابقة، يجب أن تظلّ، كما يفهمها جدعون، وسيلةً في التوصيل والإبانة والجمال والرونق والانسجام في بُنيتها؛ فليس شرطاً أن تكون شعريّةً أو مجازيّةً، بل أن تتخلّص من فائضٍ يكون عبئاً عليها،.. وهو ما شكّل ورشاتٍ لا منهجيّة إن وجد "أبو مازن" فسحةً لذلك، حين تتأخّر مادةٌ ما تزال تتنضّد حروفها خلف حواجز زجاجيّة تسمح لمنتجي الصحيفة الفنيين وطابعيها وضيوف هذه الأقسام بالاستفادة من سلامة جدعون الذي يتسنّم طاولةً كبيرةً وبين يديه أبناؤه وهم يتابعون تأشيرات "القلم الأحمر" أين ترسله عين صاحبه التي لا تقع إلا على خطأ فتسيّجه بدائرةٍ حمراء، وعند هذا الخطأ أو ذاك تكون الاستفادة و"العائليّة" التي حرص عليها المرحوم حتى تقاعده من الجريدة واشتغاله في الإعلام المرئيّ والإذاعيّ رقيباً على أخطاء اللغة وهفواتها التي يجب ألا تنتقل بالعدوى إلى المشاهدين أو المستمعين.
وعند سلامة جدعون يبدو خطاب اللغة في شكله ومضمونه واعياً إلى الدرجة التي يحترم فيها ألفاظ الحياة العامّة والرعويّة، ويجد تقاطعاتٍ "مشتركات" جديرة بأن تُفهم؛ ومردّ ذلك إلى السيكولوجيّة العذبة التي يتوافر عليها في نوعٍ من التسامح، إدراكاً منه بأنّ اللهجة الشعبيّة إنّما هي مستولدة من الفصيحة، وأنّ حركات الإمالة ومتطلبات التداول قد حرفتها عن منشئها الفصيح، فلا أقلّ أمام انتشارها الهائل من أن نقارب بينها وبين جذورها الأصيلة لنقرأ فوائد في استيلاد المعنى، ولذلك ظلّ الرجل يحكك ويرشّق في الكتاب، وفي كلّ عيدٍ أو مقابلة كنت أسأله عنه، فيرجئ الحديث إلى يومٍ يكتمل فيه،.. وفي هذا، فليسامحني إن ذكرت أنّ الكتاب ما يزال مخطوطاً لدى الدائرة الثقافيّة في البنك الأهلي، وقد وُعد الراحل أن يُطبع له الكتاب حين اكتمال!
"أبو مازن"، الذي ظلَّ أيضاً يرجئ أن يكتب عنه أحد أو يتناول رحلته بين التدريس والتحرير الصحفي والأدب وجمع المادة الشعبيّة والدراسات المقارنة، كانت "المسيحيّة" عنده تتطابق مع "الإسلام" في أنّ كلا الدينين ينبعان من مشكاةٍ واحدة، وأنّ "الدين لله والوطن للجميع"، ودون أن يشغل المرء نفسه بالتفكير في ذلك، كان سلامة جدعون ينسحب بذكاء إلى مناطق "إنسانيّة" وتراثيّة ينشأ عليها الأردنيون بمحبّة الفطرة و"الجيرة" والتوادّ والتراحم،.. ليكون أنموذجاً في تعليم كثيرٍ من المتحاورين أنّ أصالة التكوين الثقافي المرتبط بالأرض والعروبة هو ما يجب التركيز عليه في محنة العرب والعالم التي جعلتهم يناصبون السماء العداوة والمشاحنة وكلّ هذا الكره والبغضاء.
يرتبط سلامة جدعون بـ"المكان" ارتباطاً لا أدلَّ عليه من دموعه الحارّة رحمه الله وهو يذرفها أواسط العشرية الأولى للألفيّة، حين دلفت بنا سيارته العتيقة من "مهرجان شطنا" بعد أن اطمأنّ إلى تأسيسه مع نفر من أبناء البلدة، نحو منزله ومرابع صباه، يوم وقف تحت شجرة اللزاب، يناجي طيف من ذهبوا وتركوا القرية نحو الغربة فتنازعت على كفاءاتهم البلاد، عندها انطلقت عقيرته وهو يهزّ الشجرة فيسّاقط منها شعر ابن الرومي يوم قال: " ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعه.. وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا.. وحبّبَ أوطان الرجال إليهمُ.. مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا.. إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتْهُمُ.. عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا". وقد كان الرجل تشحنه الذكرى وتشجيه رائحه الجبال و"شلايا" الغنم وأطلال البيوت وتراويد المعمّرات وهنّ يستذكرن كلّ تلك الحياة.
ظل "أبو مازن" شاعراً حيياً في إظهار الآخرين عليه، وعلى شعره، وربّما يخبّئ الرجل دواوين غير الديوان الذي قرضه في ستينات القرن الماضي،.. وعائليّاً كان حين ينطلق بأبنائه وبناته وزوجته إلى شطنا يظلّ يلقي بمحبته على شجر الطريق، فيمنحه المزيد من الألق والحياة،.. الشجر الذي يلبس هذه الساعات لبوس الحداد وهو يشرب دموعه، فقد جهّز نفسه مع المودّعين، حائراً صامتاً وحزيناً، فلن يمرّ به صديقه الحميم بعد اليوم.