في هذا الزمن الصعب الذي يغرق فيه العرب في بحر من الظلمات وفقدان الهوية والذات يشعر الأردنيون انهم وحدهم وربما معهم قلة من اخوانهم العرب وبعض الاصدقاء ما زالوا يتنفسون فوق الماء وان ملامح وجودهم ضمن دائرة الامة بدأت تتلاشى لانه اصبح من الواضح ان الامة في خطر وان معظم دولها وكياناتها في خطر وان معظم شعوبها باتت تحت الاحتلال الاجنبي أو في الطريق اليه وان روابطها القومية والوحدوية اصبحت من الماضي وأن آمثال شعوبها ذهبت مع الريح.
أما هنا في الأردن ومنذ ان اوجد شعبه وقيادته هذا الكيان العبقري الذي قام ونشأ على اكتاف ابنائه جيشنا وشعبا وقيادة والذي لا نملك اغلى من المواطن فيه بدأنا نشعر بحجم الهزة التي اصابت من حوله ابتداء من ارض تونس ولم تنته بعد لا في اليمن ولا ليبيا ولا حتى في لبنان ولم يسلم من نارها قطر عربي.
والغريب في الامر اننا كنا نعرف عدونا من صديقنا وكنا نختلف في حدود الوفاق والاتفاق حتى نتصالح في نهاية الامر وكلنا اصبحنا اليوم في حالة من الخلاف والاختلاف – كعرب – لا تنتهي وفي حالة من التيه والضياع وانعدام الرؤية لا حدود لها، وبتنا جميعا بلا استثناء كبيرنا وصغيرنا غنيّنا وفقيرنا كالأيتام على مأدبة اللئام.
والاغرب من كل هذا وذاك اننا نحن عرب القرن الواحد والعشرين انجرفنا مع تيارات العصر الجديدة وصدقنا حكايات «العولمة» و«القرية الواحدة» ومشروع «الشرق الاوسط الجديد»، بدلا من «الوطن العربي» بالاضافة الى مشاريع اعادة الهيمنة وفرض التبعية الذي يضع اسرائيل في مكانة قلب النظام الاقليمي الجديد بينما تبقى كافة الدول العربية بمثابة دول الاطراف وبالاضافة لكل هذه المخططات والمصطلحات الجديدة، فقد انطلت علينا فكرة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة تحت عنوان الفوضى الخلاّقة، والتي ادت بصورة لا تقبل الشك الى خلق الحراكات والانتفاضات الشعبية تحت مسمى «الربيع العربي»، والذي كان من نتائجه نشر الخراب والدمار في العالم العربي.
وقد فشل هذا الحراك في تقديم انظمة عصرية جديدة بل نجح في ايجاد انظمة بديلة ساهمت في خلق الفساد والاستبداد وانهيار الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية، كما حصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن.
ورغم ذلك لم يكن الاردن في يوم من الايام بعيدا عن التطورات والتداعيات التي مرت بها القضية الفلسطينية واوضاع اللاجئين الفلسطينيين بل تعامل معها بكل موضوعية وعقلانية وحاول التخلص من كل التداعيات السلبية والممارسات الفوضوية وتجاوز حملات الاتهام والتشكيك التي تبنتها بعض الاطراف العربية والفلسطينية ضده، واستطاع المحافظة على كيانه وازال الكثير من الادعاءات الظالمة بحقه ومد جسور الثقة مع شعبه وتأكيد مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية، واثبت الاردن انه هو الاقرب الى فلسطين واهلها وهو الاصدق في الدفاع عنها، وهو الوحيد الذي وقف الى جانب الشعب الفلسطيني وحارب وضحى وقدّم الشهداء على أسوار القدس وعلى أرض فلسطين. وخلال المسيرة التاريخية من عمر الدولة الأردنية واجه الأردن والأردنيون الكثير من التحديات والعراقيل كان من أهمها:
أولاً: تخليص الاردن من وعد بلفور ودخول حرب 1948 وتمكنه من الاحتفاظ بالضفة الغربية والقدس الشرقية.
ثانياً: إعلان استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في الخامس والعشرين من شهر أيّار1946، وإلغاء المعاهدة مع بريطانيا وتعريب الجيش.
ثالثاً: دخول الحرب مع إسرائيل في الخامس من حزيران عام 1967 بالتنسيق مع مصر وسوريا وتحت قيادة عربية مصرية تمكنت خلالها اسرائيل من ايقاع الهزيمة واحتلالها لكل جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، وكل أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية في معركة غير متكافئة خططت لها اسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الكبرى.
رابعاً: المواجهة مع إسرائيل في معركة الكرامة في العام 1968 والانتصار الذي حقّقه الجيش العربي الأردني بالتعاون مع الفصائل الفلسطينية.
خامساً: التصدي للمنظمات الفلسطينية والمدعومة من قبل بعض الدول العربية المتواجدة على الأراضي الأردنية ومحاولاتها القيام بأعمال مناوئة للنظام ومخالفة للقانون والتدخل في الشؤون الداخلية الأردنية وحصول المواجهات مع سلطات الامن والجيش العربي الأردني والمطالبة العلنية باسقاط النظام في الأردن واختطاف الطائرات الأجنبية وتفجيرها في صحراء الأردن وأخذ الرهائن والقيام بمحاولات اغتيال الملك والتصرف كدولة داخل دولة. مما اضطر الأردن الى طرد هذه المنظمات والميليشيات التابعة لها من جميع المدن والاراضي الأردنية والتصدي في حينه الى القوات السورية ومعها جيش التحرير الفلسطيني في سوريا واخراجها بالقوة عبر الحدود الى سوريا بعد أن توغلت داخل الحدود مع المملكة حتى وصلت إلى مدينة اربد ومشارف جرش.
سادسا: المساهمة في التصدي والدفاع عن الجولان والاراضي السورية والقيام بارسال قطعان مهمة من الجيش العربي الأردني للقتال في الجولان الى جانب الجيش السوري على الرغم من تجنب مصر وسوريا اطلاع الاردن على القيام بهذه المعركة واستطاع الجيش الاردني تقديم العون الى القوات السورية والحيلولة دون وصول القوات الإسرائيلية إلى دمشق.
سابعاً: الوقوف إلى جانب الدول العربية التي رفضت سياسات التطبيع مع إسرائيل التي قادها الرئيس محمد أنور السادات واخراج مصر من عضوية الجامعة العربية ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس.
وفي عام 1987 قاد الأردن الجهود العربية في مؤتمر القمّة العربي الذي انعقد في عمَّان عام 1987 لاصدار قرار القمة بإنهاء المقاطعة مع مصر وإعادة العلاقات الدبلوماسية من جديد وإعادة مقر الجامعة إلى القاهرة، إعترافاً بدور مصر العربي في الجامعة.
ثامناً: مواجهة الخطر الإيراني وتصدير الثورة في عهد الإمام آية الله الخميني والوقوف إلى جانب العراق في الدفاع عن البوابة الشرقية للأمن القومي العربي في حين وقفت سوريا وليبيا وبعض الدول العربية الشقيقة إلى جانب إيران.
تاسعاً: المطالبة بايجاد (حل عربي) بعد احتلال العراق للكويت ودعوة الرئيس العراقي صدام حسين للإنسحاب من الكويت وعدم السماح بالتدخل الأجنبي لكن تسرّع بعض الدول العربية للاستنجاد بقوات أجنبية زاد من تعقيد الأمور ولم تفلح جهود الأردن في الوصول إلى حل عربي ونجحت قوات التحالف مدعومة من السعودية ومصر وسوريا في اخراج القوات العراقية واتهام الأردن وبعض الدول العربية الأخرى بالوقوف إلى جانب العراق، وكان ذلك البداية لانهيار النظام العربي واضعاف التضامن ونهاية التنسيق والتعاون بين الدول العربية.
عاشراً: عملية السلام والدعوة لمؤتمر مدريد عام 1991 وتشكيل الوفد الاردني الفلسطيني المشترك والمشاركة في مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية في واشنطن، وبهذا الخصوص فقد شارك الاردن وفلسطين ولبنان وسوريا لاحياء عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عام 1991 وفي عام 1992 بدأت مفاوضات متعددة الاطراف بشأن التعاون الاقليمي في موسكو حضرتها اسرائيل والوفد الاردني الفلسطيني المشترك وبعض الجهات الاخرى ولم تحضرها سوريا ولبنان، وقد بذل الوفد الاردني جهودا جبارة اثناء مفاوضات واشنطن لتمكين الوفد الفلسطيني من المفاوضة مع اسرائيل كوفد مستقل ووضع الوفد الاردني كل امكاناته بتصرف الوفد الفلسطيني للوصول الى حقوقه لكنه تبين في نهاية المفاوضاتان القيادة الفلسطينية سلكت طريقا سريا اخر في التفاوض مع اسرائيل وكان اعلان اوسلو مفاجأة كبيرة للوفد الاردني وكذلك الوفد الفلسطيني في واشنطن، ومع ذلك فقد اعلن الاردن بعد ايام تأييده للاتفاق بين اسرائيل والقيادة الفلسطينية والذي عرف باتفاق اوسلو، وبعد ذلك بفترة نجح الاردن في الوصول الى اتفاقية السلام مع اسرائيل بعد مفاوضات شاقة وعقبات كثيرة واجواء محبطة في مقدمتها الفتور في العلاقات بين الولايات المتحدة والاردن والحصار الذي تم فرضه على ميناء العقبة بحجة وقوف الاردن مع العراق في غزوه للكويت وعدم انضمام الاردن لقوات الحلفاء لإخراج العراق من الكويت.
حادي عشر: استمرار الخلاف بين الاردن واسرائيل حتى الان بخصوص وضع القدس والوصاية الهاشمية وانتهاك اسرائيل للقانون الدولي والقرارات الدولية المتعلقة بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي تطالب اسرائيل بالانسحاب من كافة الاراضي العربية والفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية والمبادرة العربية للسلام التي تقضي بمبادلة الارض بالسلام والاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وكذلك رفض اسرائيل لحل الدولتين واعتبار القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين وحل مشكلة اللاجئين حسب القرارات الدولية واعتبار المستوطنات غير شرعية ومخالفة للقرارات الدولية وتعيق عملية السلام، ومن الواضح ظهور الخلاف الاردني الاسرائيلي بشكل خطير ويتركز هذا الخلاف حول القدس وحل الدولتين وكذلك الاستمرار في عمليات الاستيطان واعلان النوايا الاسرائيلية بمساعدة الادارة الاميركية الحالية بالاعتراف بضم المستوطنات تحت السيادة الاسرائيلية وكذلك الاعلان عن ضم اراضي غور الاردن بالاضافة الى التهديد بضم الضفة الغربية لاسرائيل.
وبعد الإعلان قبل ذلك عن ضم الجولان السوري المحتل تحت السيادة الإسرائيلية وبدعم واعتراف من الادارة الاميركية الحالية.
وبالاضافة الى كل هذه التحديات يواجه الاردن تحديات داخلية لا يمكن فصلها عن التحديات الخارجية ويأتي في مقدمتها ما يلي:
1- ضرب الوحدة الوطنية والتفريق بين الاصول وتشويه العلاقات القائمة بين الاصول الفلسطينية–الاردنية والاصول الشرق اردنية وهي محاولة باءت بالفشل الذريع وثبتت قوة الوحدة بين الاصول الاردنية وإنعدام الاختلاف والتمييز بينهم وكانت الوحدة بين الاردنيين والفلسطينيين اعظم واصدق وحدة في التاريخ العربي الحديث.
2- مواجهة العمليات الارهابية والقضاء عليها وخاصة تفجيرات فنادق عمان عام 2005 واستشهاد الطيار معاذ الكساسبة والمحاولات الارهابية في اربد والسلط وبعض المناطق في المملكة ووقوف الاردنيين والاردنيات صفا واحدا لافشالها.
3- محاولات عزل المكون الفلسطيني عن المكون الاردني بعد الاندماج الصلب بين المكونين وانصهارهما في بوتقة الدستور الاردني والمبادئ والافكار المستمدة من مفهوم الثورة العربية الكبرى ووحدة الامة العربية والمساواة في المواطنة التي كفلها الدستور والقوانين الاردنية.
4- المحاولات التي تقوم بها بعض الجهات لاستهداف الملك ونظام الحكم والتي جوبهت برد قوي من المجتمع الاردني الذي يلتف حول مرجعية واحدة تجمع ولا تُفرق بين الاردنيين والاردنيات بفئاتهم المختلفة.
5- محاولات التلويح بفزاعة «الوطن البديل» المرفوضة من قبل كل اردني واردنية ويشاركهم بصدق وجدية كل فلسطيني وفلسطينية ولا يقبل الاردني او الاردنية بديلاً عن الاردن في اي بقعة في العالم، ولا يرضى الفلسطيني او الفلسطينية بديلا عن فلسطين وطنا طال الزمن ام قصر ومهما كان الثمن فالاردن للاردنيين الذين بنوه بسواعد الآباء والاجداد وفلسطين للفلسطينيين الذين ضحوا ولا زالوا يقدمون التضحيات من اجل قيام دولتهم الحرة المستقلة على ترابه.
6- ويقف اهل الاردني شيوخهم وشبابهم رجالهم ونساؤهم في وجه اصحاب الاجندات المشبوهة والصفقات الخبيثة التي يُروج لها اليوم ويرفضون اية تسوية لا تعترف بحل الدولتين وان القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة وان مستقبل الامة مرهون بارادة اهلها المخلصين لاهدافها ومبادئها وان الاحتلال الاسرائيلي هو سبب استمرار النزاع بين اسرائيل وشعب فلسطين ومعه كل شعوب الامة العربية وان غد الامة سيكون افضل كثيراً من حالها الآن، وان غداً لناظره قريب.
الراي