أكتب هذا المساء من أدنبرة. في الواقع أكتب من جامعة إدنبرة إحدى الجامعات السبع العتيقة The ancient universities التي يرجع تأسيسها إلى القرون الوسطى، وقد غمرتني الفرحة بتخرّج فلذة الكبد تمارا بشهادة الماجستير في القانون.
تعتريني كلّما ذَرَعْتُ طول أوروبا وعرضها، كلّما مشت بي الدروب في تلال الإنجليز المرتفعة وأراضيهم المنخفضة، مشاعر جمّة وأنا أرى خلق الله في البلاد التي قدّر جلّ شأنه، أن تكون لنا مثلاً في النعمة والفضل والعيش الرغيد.
على طول الدروب، وطول المسافة التي تذرعها القطارات في تلك البلاد، لا أحد ينشغل بمستويات النمو ولا بتسعيرة المحروقات ولا بدعم الخبز. لا أحد يهتم هناك بالجلبة التي يُصرّ عليها خطيب مؤتمر الحزب حين يتوعد بالثبور وعظائم الأمور دون أن يعير صراخه أحد.
في الواقع ليس لأحد مشكلة في الأنتساب لحزب حين يوقن بمبادئه وثوابته، فإذا انتسب، فإنه لا يلتفت خلفه على الإطلاق، بل يتقدم سريعا إذا وعى الفكرة ونفّذها.
في هذه البلاد يصعد السياسيون بسرعة كبيرة لتصدّر المشهد. يصبحون وزراء ورؤساء حكومات إذا ما رشّحهم الحزب.
لا أحد منهم يستند هنا سوى على ما يقتنع به الحزب فيضحي في ليلة رئيسا لحكومة، وهدفا متاحا لنيران حكومة الظل التي تتشكل بالتوازي مع حكومته.
فإذا رأى قصورا منه و من وزراءه، أو رأى أن استطلاعات الرأي الحقيقية هناك ليست في مصلحته، فليس عنده مشكلة أبدا في أن يستقيل. إنه يعمل تحت الشمس لصالح أمته، دون هدف سواه.
في الوجه الآخر للسياسة الغربية، ثمة قبح مبين في التعامل مع شعوب قدّر لها الله العيش في غلاف العذابات.
إنهم يكدحون لرفاهية شعوبهم، لكنهم في الوقت نفسه، يبدعون في تعذيب من سواها. بالطبع لا أحد في الداخل يحفل بهذه الممارسات، فما يهمهم في الواقع هو ان لا يخرج الساسة عن خط رفاههم القويم.
لقد أمعن هؤلاء الساسة في إرضاخ الشعوب في البلاد المتراجعة، لسياساتهم الإستعمارية البغيضة، وللاستقواء بالعلم والمعرفة على شعوب أنهكها الضياع.
لقد رأينا ما فعلوا في فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي كل البلاد المحكومة بالتعب، رأينا كيف أعدوا لها قياسات سياسية بمنتهى العناية، كي يمشوا عليها بخطى قويمة.
في الحقيقة لقد أوهمونا ان الديمقراطيات وقوانين الانتخابات التي تفرز سياسييهم لا يمكن تطبيقها في البلاد المتراجعة.
أثبتوا لنا بالحجة الواهية والمنطق الأعوج، أنا لنا قوانيننا ولهم قوانينهم. وإلّا لم لمْ تفلح وصفاتهم السقيمة في العراق مثلا، حيث يتساقط المواطنون برصاص ساستهم كل يوم؟
الكلمة الفصل في كشف الألاعيب هي أن نعترف جميعا بحجم الجهل الذي زرعوه في حقولنا، وفي حجم الغطرسة التي يمارسها أولئك الساسة علينا، وأن نوقن تماما أنهم لو أرادوا لكل البلاد المتراجعة أن تكون بحجم بلادهم، لفرضوا بالقوة قوانينهم الديمقراطية، لكنهم لا يرغبون بذلك. في الحقيقة ليس من مصلحتهم ذلك.
ستبقى تلك الأحجيات وصفة لديمقراطيات البلاد المتراجعة، ستبقى سنبلة فارغة في هذا الحقل الأجوف العقيم، إلّا إذا داوينا جراحنا بأنفسنا بعد أن ننفض غطاء الجهل الثقيل.