الجزء الخامس
في عام 1789، إن تقديم الدستور الذي تبعته الثورة، كان مرتبطاً مباشرة بالظروف السياسية في تلك الحقبة من الزمن وبالتحليل الذي تم لنظام الحكم المطلق، لما الإرادة الحسنة للأمير كانت تتخذ مصادرها من غياب القواعد التي تحدد إمكانيات العمل ، بل يكفي، من أجل وضع حد له، أن يعرف في نص نهائياً، الشروط لممارسة السلطة السياسية. والدستور قد أصبح هذا النص المقدس، لا يمكن المساس به، والذي يفرض الإطار المنيع الذي به يجب أن تسير الحياة السياسية، ومن أجل تقوية أيضاً الإحساس بالأمن النهائي، يجعل النص يتضمن المنع لكل تعديل خلال السنوات الأولى بجعله من الصعب، فيما بعد. أوليست الدساتير "الحقيقية" هي تلك الدساتير "الصلبة"؟
في الدستور الجديد، بأمر من شكل كتابته الإجتهادية، قد قلب هذا التصميم التقليدي والذي مع ذلك مثالي جداً . وبالتعريف، الإجتهاد ليس ثابتاً وقرارات الأنظمة لا توجد، والإلتواء والتبدل في الإجتهاد يسجل في المنطق نفسه للعمل الإجتهادي. وبالإمكان أن تأسف لذلك، وبالأمكان أيضاً أن نفرح بأن المجلس الدستوري، بسلطته التفسيريه، قد أنشأ من جديد بدون توقف الدستور ودشن بذلك مثالً حياً للإنشاء غير المحدود للقانون.
أ منطق العمل الإجتهادي
إن النتيجة الأولية والمباشرة، لاجتهاد المجلس هي إنتاج تخفيض الدستور المكتوب، بهذا المعنى فهو لم يَعد له، بأي شيء وبنفسه، دلالة تفرض كالتزام على واضعي الدساتير. ونصوص المتن قد نقصت في نوعية الكلمات البسيطة التي لا تأخذ معنى قانوني الا بعد العمل القضائي التفسيري، وعلى الأفضل، بالإمكان وصفه، قبل تدخل المجلس، باقتراحات شخصية للقاعدة القانونية باعتماد تعبير (ميشيل تروبير Michel Troper). وهكذا فإن الفقه اعتقد بأن المادة (34) من الدستور كانت قد حددت مجال القانون وكرست تعريفاً مادياً للقانون، وقد "أخطأ" ، وقد "أخطأ أيضاً عندما اعتقد بأن الكلمة "برنامج" لها نفس المعنى في المادة (38) فقرة (1) وفي المادة (49) فقرة (1)
فهو قد (أخطأ) دائماً معتقداً هذه المرة بأن التعبيرات "المداولة الجديدة للقانون" – المادة 10 من الدستور – و"القراءة الجديدة" المادة (23) من اللائحة بتاريخ 7 نوفمبر 1958 – كان لها معنى مختلف . فإذا توجب أن نتجرأ بتفسير من خلال التحليل النفسي، فإننا نستعيد طواعية من (فرود) خرافة موت الأب، كي نقول بأن المجلس "يقتل" النص "الدستوري" ويلتهمه بالتالي من أجل أن يوفقه أكثر، ليأخذ مكانه، وأن يجعله يحيا مرة أخرى بصوته، بعمله الإجتهادي! إنقاص قيمة- إعادة تقييم: البعث المعاصر غير القابل للنقاش لمفهوم الدستور كعمل إجتهادي، يتوجب بدون شك لمفهوم الدستور كعمل إجتهادي، بدون شك أن ننتقل من خلال محو مفهوم الدستور كعمل مكتوب. والقرارات السابقة تظهر بوضوح بأن المجلس يتلف أولاً، مثلاً المفهوم المادي للقانون من أجل عطاء حياة، من خلال عمل التفسير- خلق، للمفهوم الشكلي. لا شيء هناك يفضح، ما عدا أن يغتاظ برؤية قضاء ينجز ما هو، بكل بساطة، مهمته. فدور المجلس، في الحقيقة أن يقول القانون، صيغة لا يتوجب عليها أن تُفهم بأنها تنقص القاضي الى دور ثان، حتى لو كان لامعاً، الناطق بنص دالاً منذ الأصل ومفروضاً عليه.
وعلى العكس، قول القانون، يعني إعطاء معنىً لهذا أو ذاك من نصوص الدستور أو من الإعلانات من خلال عمل تفسيري للكلمات مع أن المنطق يفرض أن نضع القاضي من جهة في مواجهة عدة دلالات ممكنة ومن جهة أخرى بالإلتزام المهني أن يختار واحدة.
وعلى وجه الضبط هذا العمل القضائي هو الذي يعمل من الدستور عملاً حياً، في الإنشاء والتكوين المستمر، لأن اختيار معناً لا يكون أبداً نهائياً، وأن تفسير نص محفوظ في لحظة ما بالإمكان دائماً ان يتغير. فإذا الشيء معروفاً تماماً في القانون المدني وفي القانون الإداري، لأن الوقت اليوم يسمح بتتبع تطورات المعنى، أحياناً بشكل عجيب، حيث أن القضاة جعلوه يخضع لمواد الكود أو للمبادئ العامة للقانون، والأمر كذلك في الواد الدستورية. ولسبب بسيط: ليس أكثر من القضائين المدني والإداري، المجلس الدستوري ليس لديه احتكار التفسير. وهذا هو في الحقيقة لمبدأ لعبة تضع في تزاحم عدة مؤلفين: البرلمانيين اللذين، عند النقاش التشريعي أو في المناقشة عند مراجعتهم يفصحون عن تفسيرهم للنص الدستوري، وأساتذة القانون الذين في عملهم بالتعليم، يسعون لاستخراج الدلالة المتعلقة بالموضوع، والجمعيات ذات الإهتمام بالقانون الذي تجري مناقشته----رابطة حقوق الإنسان، نقابات الصحافة (قانون ليوتار) للقضاة، للمحامين (قانون "أمن وحرية")، عالم العمال (قانون حول تحديد الحق بالإضراب)، الزراعة (قانون حول خصخصة التسليف الزراعي)،-التي تغذي قرائتهم الخاصة للنصوص، والصحافيون، المتخصصون أم غير المتخصصين، الذين يجربون تقييم ردود الفعل للرأي،
إذن هذه أو تلك من التفسيرات تم اختيارها، الخ . وفي هذا السوق مانح المعاني، فالتزاحم الذي انهمك فيه المنتجين من أجل فرض رأيهم، الذي لا يكون أبداً متساوياً بقدر ما أن كل واحد يتصرف بسلطة مختلفة مرتبطه بمركزه، سلطة ومركز بالإمكان مع ذلك أن تتغير حسب الظروف السياسية والقانونية حسب الهيئة الذين يشاركون فيها. صحيح أن الدستور يعطي دفعة واحدة للمجلس مكانه متميزة، ويسمح له دائماً بأن يفرض تفسيرهوبالرغم من القوة المعطاة للمناقشة القانونية تميز المادة (10) من الدستور والمادة (23) من اللائحة الصادرة بتاريخ 7 نوفمبر 1958، من خلال نوعية مقدمي الدعاوى – رئيس قديم للجمهورية، ورئيس مجلس الأعيان وأربعة رؤساء وزارات قدام، والذين واحداً منهم من حرر الدستور – والمجلس قد تبنى رأياً مختلفاً . ومع ذلك يجب أن يُدخل دائماً أو على الأقل، أن يأخذ بعين الإعتبار التفاسير المتزاحمة. وإن شرعية تفسيره تعتمد في الحقيقة، فيما وراء أساسه الدستوري، ومن الإعتراف باجتهاده من قبل جمعية الفقهاء والحالة هذه، هذا الإعتراف، كي يبني نفسه، يفترض أن ينشأ بين المجلس وشركاؤه علاقة حيث الآخرين، بالرغم من موقف الأول، باستطاعتهم أن يكون لهم الإنطباع الحقيقي للمشاركة في عملية التفسير بإيجاد – بعض المرات- في تعليل القرارات، الكل أو جزء من مناقشتهم، والا، فإن المجلس يخاطر بإثارة معاداة المؤسسات التي هو بحاجة لها كي يضمن مشروعيته. وتفسير، من الأقلية في الجماعة التي يحفظها المجلس في الزمان، بالرغم من معارضة وعدم استحسان مكرر وهي نفسها أبقت عليه، يتضمن منهما إعتداءً، في الوقت الحاضر على سلطة القرار ولوقت، على جهاز التفسير نفسه والذي وجوده لا يمكن أن يكون محل احتجاج .
وبعبارة أخرى، التفسير المنطقي للعمل الإجتهادي، ليس نتاج اختيار معنى لعمل حرمن قبل المجلس، ولكن من علاقات القوة بين المؤسسات المتزاحمة. ولهذا السبب، لم يعط أبداً ونهائياً ويتطور، ويتغير مع التعديلات في علاقات القوة، حتى إذا أشكال السير المختلفة للمجلس و "جماعة رجال القانون" تُشرح بأن العملية لا تتحقق بالتزامن. وإن تحليلاً للمضمون، ولنتائج هذا أو ذاك من المبادئ الدستورية، رفض من قبل المجلس في ظروف قوة خاصة،
يمكن أن يتلقاه إذا كانت هذه قد تعدلت. لهذا يأس مثلاً من قادر على أن يؤثر في المجلس، وأن يفرض عليه تدريجياً تفسيره أو يقوده، بتعليقات موافقة للقرارات المتتابعة، لتغييره؟ الا يجب أن نعتبر بذلك أن تفسير الرئيس (لوشير Luchaire) كان قد توصل في النهاية الى إقناع المجلس، لما كان هذا الأخير قد هجر في عام (1985) اجتهاده لعام (1978)، الذي يعترف به بأن "قانوناً قد صدر يمكن أن يُحتج عليه لاحقاً بمناسبة فحص النصوص التشريعية التي تعدله، أو تكمله أو تؤثر في مجاله" وأن مناقشة البروفسور (رينيه كابيتنت René Capitant) التي مددت المادة (53) من الدستور الى فرضيات انفصال الأراضي كان قد تم تبنيه من قبل المجلس، مقتنعاً من خلالها كي يؤسس إعادة كتابته للقانون من خلال عمل الفقه الذي لا يستطيع عندها أن يحتج عليه .
وفي الجملة، إن التزاحم الدائم بين التفسيرات المختلفة، يمنع النص أن يموت، أو أن ينتهي في اللحظة التي جرى انتاجه فيها، والقاضي الدستوري، كجهاز منظم لهذا التنزاحم، يجعله يحيا بتبنيه بدون توقف للمتطلبات الجديدة التي تولدها الحياة السياسية فيما بعد إصداره. وبهذا المعنى، إن منطق العمل القضائي لا يجعل من الدستور عملاً مغلقاً، وبات، لكن مجالاً مفتوحاً للخلق المستمر للقانون. (يتبع)