وصفي التل، لماذا ما زلنا نتغنى به؟
أريمال محمود الحوامدة
24-11-2019 10:24 PM
عندما تنظر اليه يبدو وكأنه سنديانه أصلها ثابت في الأرض، حيث هباه الله الطول فكان واثق الخطوة يمشي شامخاً لا ينحني أبداَ، تلوحت جبهته السمراء بألوان سهول حوران وكانت تعابيره حاده جافة صلبة، له حاجبان سوداوان داكنان يرتفعان فوق عيني "صقر وكأنه للقنص مُتحضر". الا أن من يعرفه ، يعرف أنه رجلاً دمثاً يحمل مشاعر رقيقة ولكنه رجلاً صلباً حازماً في المواقف الصعبة والخطيرة.
ولد وصفي التل في كردستان العراق عام 1918 في كنف شاعر مشاكس وهو الأشهر أُردنيّا مصطفى وهبي التل الملقب ب" عرار" وفي كنف أُم كردية وهي منيفة بابان. وعاد الى اربد عام 1924 وهو في السادسة من عمره وكان في ذلك الوقت لا يتكلم العربية.
درس في مدارس اربد والسلط وتخرج من مدرسة السلط الثانوية ثم ذهب الى لبنان حيث درس العلوم الطبيعية في الجامعة الأميركية في بيروت. التحق بعد عودته إلى الأردن بالعمل الحكومي فدّرس في مدارس الكرك، وانضم إلى الجيش البريطاني ثم سُرح من الخدمة بسبب ميوله القومية. ثم التحق بجيش الجهاد المقدس بقيادة فوزي القاوقجي، وحارب في حرب فلسطين عام 1948.
استقر بعدها في القدس ليعمل في المركز العربي بادارة موسى العلمي. عمل بوظيفة مأمور ضرائب في دائرة ضريبة الدخل في عمان ثم عمل موظفا في مديرية الإعلام. وتقلّد عددا من الوظائف القيادية ، حيث تنقل بين العمل الدبلوماسي والسياسي وكُلف بتشكيل الحكومة الأردنية عدة مرات. وشهد الأردن في عهده قيام الجامعة الأردنية وشق الطريق الصحراوي وبناء ميناء العقبة.
كان مظهره وسلوكه أقرب الى عامة الشعب، اهتم بالزراعة والتنمية وعلّم أبناء الكادحين ولُقب بأبي الفقراء. أفرج عن جميع المعتقلين السياسبين وقام بنفسه بحرق ملفاتهم في دائرة المخابرات العامة.
وفي تعامله مع الشعب، استعمل وصفي لغةً مفهومةً كانت أقرب الى الموروث الثقافي والاجتماعي الأردني. كان يعلم أن الدستور أعطاه الحق في اداراة أمور الدولة وكان يعي تماما ماذا يعني أنه المسؤول الأول عن الولاية العامة للدولة بموجب حق كفله الدستور.
ولا يسع المرء وهو يشاهده برفقة الملك الحسين الا أن يلحظ كم أن تعامل الملك معه كان مختلفا عن أي رئيس وزراء أُردني اخر.
فخصّه الملك باحترام لم يحظ به أحد من قبله، وقدّمه على الجميع فلم يُنافسه رئيس لديوان أو قائد لجيش أو حتى ولي للعهد.
فعلاقته بالملك لم يحظ بها أي رئيس وزراء مع مليكه .فكأن التناغم بينهما كان فطرياً أو حتى كأنهما وجهين لشخصٍ واحدٍ. وهنا لا نتكلم عن أي ملك بل عن الملك الحسين صاحب أكبر شعبية وكرزما واحتراما في الاردن والعالم.
كان وصفي شخصية وطنية مستقلة في آرائه وقناعاته ولم يخش في الحق لومة لائم مهما كلفه الأمر. وكان معروفاً بوطنيته وعروبته وحبه للأردن وفلسطين، وعُرف بنزاهته واستقامته فلم يستطع أعداؤه الطعن بنزاهته من قريب ٍأو بعيدٍ حيث ضرب بيدٍ من حديد الفساد والواسطة والمحسوبية.. وقد جاء في وثيقة بريطانية لوزير الخارجية البريطاني مؤرخة في الثالث من ديسمبر عام 1971 عنوانها "رئيس الوزراء وصفي التل" أن "طاقاته وقدراته وعدم فساده صفات جعلت منه واحداً من رؤساء وزراء قليلين ممن امتلكوا تأثيراً حقيقياً في السياسة الأردنية المستقلة عن الملك".
أحب وصفي فلسطين وأهلها فأحاط نفسه بعدد من الأصدقاء الفلسطينيين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر عدنان أبو عودة وأحمد طوقان وحازم نسيبة وعبدالله صلاح. وتجلّى حبه لفلسطين من خلال رسالة عتابٍ كتبها الى صديق فلسطيني موجودٌ في مخيلته، وكان هذا الصديق قد ترك فلسطين وذهب للعمل في الخليج ونُشرت هذه الرسالة في" مجلة الهدف" وجاء فيها :-
" أما الآن.. وأنا أكتب هذه الرسالة، فإني متكبر ومستعل عليك، وأشعر بأني أحدثك من فوق، ولا أملك أن أدفع عن نفسي شعور الخيبة فيك ولا أستطيع سوى الاحساس بالألم والمراره بسببك وبسبب الكثير من الاخوان الذين نهجوا وسلكوا السبيل الذي انت الان سالكه.
أتدري لماذا أنا مستكبر مستعل، أُحدثك حديث متسلط ؟ أتدري لماذا أضع نفسي في مرتبة أعلى منك؟ أتدري لماذا أُعطي لنفسي الحق الادبي بتوبيخك والحكم عليك؟ أتدري لماذا؟ لاني أكتب اليك من فلسطين!
والكتابة من فلسطين لا تعني تعييناً جغرافياً لمكان كتابة الرسالة, كما أن الوجود بها لا يعني مكان الإقامة وتحديد المسكن. لا أعني كل ذلك، وما أقصده هو أن الوجود في فلسطين، بهذه الظروف وبهذه الوضعية، رسالة جهادٍ ونضال، لا أعرف هل في استطاعة المنهزمين الذين ألقوا السلاح مثلك أن يفهموها؟".
تقلد وصفي مناصب متعددة في ظل ظروفٍ حالكةٍ ألمّت بالأردن وفلسطين والأمة العربية وخاصةَ حرب عام 1967 وتبعياتها والتي عارض التل دخولها .وكان موقفه واضحاً وصريحاً ومباشراً مُصّراً على عدم دخول الحرب ، فقد وجد أن جميع المعطيات العسكرية والسياسية لكافة الدول العربية التي سوف تشارك بالحرب بما فيها الأردن تؤكد وقوع هزيمة ونكبة محتمة. فقد رفض وصفي توقيت الحرب ورفض الخطة العسكرية المصرية والتي رأى في انسحاب الجيش الأردني من الضفة الغربية لملاقاة الجيش المصري في صحراء النقب بأنها ستعرض الجيش الأردني للضرب حيثُ سيكون بلا غطاء.
كان وصفي يردد دائماً " اذا دخلنا الحرب ، فان الهزيمة والكارثة قادمتان لا محال" وهذا ما حدث فعلا.
وكنتيجةٍ لحرب عام 1967 لجأ الفلسطينيون بمن فيهم الفصائل المسلحة الى الأردن. وكعادة الأردن والأردنيين كانوا ملاذاً آمناً للفلسطينيين وتقاسموا معهم كل شي بما فيه لقمة العيش. الاً أن هنالك ظاهرة بدأت بالانتشار في الأردن ألا وهي نمو الظاهرة الفلسطينية المُسلحة. وبدأت الأحداث تتابع بوتيرة متسارعة ففي 6 أيلول عام 1970، أقدمت الفصائل الفلسطينية المُسلحة على خطف 4 طائرات أجنبية حيث تم تحويل مسار طائرة وتفجير 3 منهم في مطار المفرق الصحراوي في الأردن ،بهدف الافراج عن معتقلين فلسطينيين في السجون الأوروبية . وفي 14 أيلول 1970 ناشدت صحيفة كانت تصدرها حركة فتح بالدخول في إضراب عام في الأردن وإقامة سلطة وطنية في البلاد. وفي اليوم التالي استولى الفدائيون على مدينة اربد وأعلنوها منطقة محررة تحت حكومة شعبية .
ان اختطاف الطائرات كان بالنسبة للملك حسين بمثابة القشة الأخيرة، وبدأت الضغوط الشعبية تتوالى على الملك لانهاء حالة الفوضى.
وقد ورد في الوثيقة البريطانية الآنفة الذكر "أما في صيف عام 1970 فقد قاد التل الجهود التي أقنعت الملك بضرورة القيام بعمل ما ضد الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن و كان له دوراً حاسماً في بسط سيطرة الحكومة الأردنية أثناء الاشتباكات". واعتبر هذا الصراع صراعاً بين قوى القانون والنظام وقوى الفوضى.
هُنا اتُهم وصفي أنه كان ضد الفلسطينين وضد العمل الفدائي. لكنَّ وصفي كان له رأيٌ اّخر اذ أنه لم يجد سبباً واحداً لوجود عناصر مُسلحة على الأراضي الأردنية تجوب المدن الأردنية بلا حسيب ولا رقيب تقوم بممارساتٍ استفزازيةٍ خارجةٍ عن القانون قائمة على أساس ارساء دعائم الفوضى في البلاد.
كما أنه أعلن ومُنذ البداية أن عمان هي "هانوي العرب" وقصد بها هنا أن تكون عمان نُقطة "انطلاق" للعمل الفدائي وليس أن تكون أرضها مسرحاً للعمليات العسكرية، فهو كان فقط ضد الوجود المُسلح لهذه الفصائل في الأردن وضد عملياتها في الأردن لأن هذه العمليات تُعتبر عملاً فدائياً فقط عندما تُشن في الضفة الغربية ضد اسرائيل، فالعمل الفدائي لا يكون على الأراضي الأردنية لأنه بذلك يُعبتر اعتداءً سافراً على سيادة الأردن، علماً بأن وصفي كان قد ذكر أكثر من مرًة في تصريحات له أن "هذه الفصائل وخلال 18 شهر لوجودها في الأردن قبل أيلول لم تقم بأي عمل فدائي واحد ضد اسرائيل".
كان لا بُد من انهاء حالة الفوضى، فالمعركة في ذلك الوقت كانت معركة "وجود" بين الدولة والفصائل المُسلحة لفرض سيادة القانون، خاصة بعد استيلاء الفدائيين على مدينة اربد واعلانها منطقة محررة تحت حكومة شعبية . وبعد انهاء حالة الفوضى، شعر الأردنيون بارتياح حقيقي لعودة الحياة الطبيعية الى البلاد. وبعد أحداث أيلول وفي أول لقاء لوصفي مع الجماهير الأردنية كان مع الملك حسين في مدينة الحسن الرياضية حيث بقيت الجماهير واقفة لمدة 15 دقيقة يهتفون لوصفي بحضور الملك!
"فوق التل تحت التل نحن رجال وصفي التل".
تأكيداً منهم على أنه الزعيم السياسي الأبرز في الأردن بعد الملك. هذا وقد ووصف "نبيل عمرو" في برنامج الجريمة السياسية "اغتيال وصفي التل "الجزء الثاني" على قناة الجزيرة، وهو وزير سابق في السلطة الفلسطينية وصفي بقوله:-
"كان وصفي أكثر بكثير من رئيسٍ للوزراء وأقل بقليلٍ من ملك". وأضاف أن:- "وصفي كان أقوى و"أشرس" رئيس وزراء اردني".
وصل الملك حسين إلى القاهرة في 26 أيلول 1970 للمشاركة في القمة العربية وسط استقبال عدائي من رؤساء وقادة الدول العربية ولقاء بارد مع عرفات، إلا أنهما وقّعا اتفاقا في اليوم الثاني بحضور عبد الناصر لوقف فوري لإطلاق النار في كل أنحاء الاردن وسحب الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية من كل المدن في مساء نفس اليوم. وعلى أساس هذا الاتفاق خرجت هذه الفصائل المسلحة من الأردن "كنز الجغرافيا" ومن عمان "هانوي العرب" بروح الانتقام.....
توفي جمال عبدالناصر في 28 أيلول 1970 وتولى قيادة مصر من بعده السادات. وفي28 تشرين الثاني من عام 1971حضر وصفي اجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة في ظل أجواءٍ عربيةٍ مشحونةٍ .و بالرغم من تحذير الملك ومدير المخابرات له بعدم الذهاب الاّ أنّ وصفي أصرّ على الذهاب ليقارع الحجة بالحجة. وكان واضحاً ومُنذ لحظة وصوله الأولى أن السلطات المصرية لم توفر له الحماية اللازمة.
وعند عودته من الاجتماع الى فندق شيراتون القاهرة، وهو يهمُ بالدخول الى الفندق اغتاله المجرمون القتلة والذين كانوا يقيمون بنفس الفندق! فأطلق عليه جواد البغدادي النار من داخل الفندق بالتزامن مع زياد الحلو الذي أطلق عليه النار من خارج الفندق. كان المجرمون القتلة ينتمون الى منظمة أيلول الأسود والتي ترأسها أبو اياد" جهاد خلف" . كان قتلة وصفي وهم عزت رباح وجواد البغدادي وزياد الحلو ومنذر خليفة جميعاً من الفلسطينيين المقيمين في لبنان والذين قد وصلوا القاهرة بأسلحتهم الشخصية قبل اربعة أيام من العملية. أُصيب وصفي بأربعة عشر رصاصة وبقي على قيد الحياة اثني عشر دقيقة الى أن فارق الحياة.
بحسب ما قاله أبو اياد "صلاح خلف"في نفس البرنامج المذكور سابقاً، وهو مؤسس أيلول الأسود وهو الذي خطط لهذه العملية "أننا كنا نحتاج لعمل للحفاظ على المقاومة لتستعيد توازنها بعد اخراجها من الأردن لأن الكثيريين اعتقدوا أن الثورة انتهت فتم اللجوء الى اسلوب العنف الثوري ليفهم العالم أن يد الثورة طويلة، فكانت عملية اغتيال وصفي التل". وكان "أبو داود" محمد داود عودة أحد قادة أيلول الأسود قد قال في برنامج الجريمة السياسية "اغتيال وصفي التل "الجزء الثاني" قُمنا باختراع "منظمة أيلول الأسود" ولو بتتحمل كل الوساخات لتبقى فتح نظيفة"!
في ظل أجواء المطالبة بالافراج عن القتلة من قبل ليبيا القذافي والتي هددت بالانسحاب من جامعة الدول العربية تمت المحكمة"المهزلة" في القاهرة ،ولم تكن هذه المُحاكمة مُحاكمةً قانونيةً جنائيةً بل كانت مهرجاناً سياسياً تحولت الى مُحاكمة للشهيد البطل وللنظام الاردني حيث تم ضم ملف أحداث أيلول الى ملف القضية لاعطاء التبرير لهؤلاء القتلة لارتكاب الجريمة، أي "الدافع" وراء الجريمة .وفي جلسة النطق بالحُكم وبالرغم من اعلان "منظمة أيلول الأسود" مسؤوليتها عن عملية الاغتيال الا أن القضاء المصري حكم باخلاء سبيل المجرمين القتلة. وفي هذه الجلسة ظهر القتلة في المحكمة يرتدون البدلات وربطات العنق الملونة يرفعون اشارات النصر ويبدون في غاية السعادة.
كان غيابه مريحاً للكثيريين حيث تواطأت أطراف عربية وأنظمة عربية كثيرة لطي صفحة وصفي التل منها النظام المصري والسوري والجزائري والليبي والمنظمة. نعاه الملك حسين بحُرقة وألم، وأحدثت وفاته مأتماً في كل بيت اردني و طعنة في الظهر. وبالفعل وكما قال الشاعر الكبير حبيب الزيودي فان وصفي افتدى الأردن بدمه.
" يا مغلين أرضنا ومرخص دمك
قُلت يا أرضي ارتوي ويا نبع لا تجف
ويا مهدبات الهدب غنن على وصفي"
جاء بعدُك الكثير الكثير من مختلف الأطياف السياسية . فجاء بعدك المحافظون والليبراليون والمتدينون والمتلونون، كلهم جاؤوا ببرامج ومناهج أدت الى بيعنا . باعونا يا وصفي عشرات المرات وخصخصونا وزادوا مديونيتنا أضعافاً وزادونا فقراً وبؤساً وبطالةً وعاثوا بنا فساداً، وجاؤوا بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لم يحبونا كما أحببتنا ولم يحبوا الاردن كما أحببته ولم يكونوا سنداً حقيقياً لسيد البلاد كما كنتم . فلم نحبُهم. بعدك لم نُحب أحداً ولم نثق بأحدٍ. لقد خبرنا معك مفاهيم العزة والكرامة والولاية العامة الحقيقية ونظافة اليد فكيف نقبل بغير ذلك؟
شغل مقعدك الكثير الكثير ولكنهم كانوا موظفين ولم يكونوا رجال دولة، كان الكرسي أكبر منهم وهمهم الأول والأخير ، جلسوا عليه ولأنه كان أكبر منهم سقطوا عنه . هل تُصدق أنه وللان ما زال مقعدك شاغراً؟ بالرغم من أن الكثيريين جلسوا على هذا المقعد الاّ أنهم لم يملؤه، فليس كل من جلس على مقعد ملئه.
وصفي: ألست أنت القائل" اذا مات منّا سيّدٌ، قام سّيدُ"؟
لقد مر على استشهادك ما يقرب من خمسين عاماً و لم يقُم هذا السيد، فهل سيقوم؟