يكاد المشهد يتكرّر معنا في كلّ يوم ، يدخل طفل لم يبلغ الرابعة بعد الى مطعم بوسط البلد ، في الحادية عشرة ليلا ، فيتجول بين الطاولات ، مقدما رجلا ، وساحبا اخرى ، تسبقه راحة يده المفتوحة على آخرها ، فتكتشف مع اقترابه ان لسانه لم يتعود اللغة بعد ، لكنه يتسول بعض النقود بنظرة حزينة في عينيه.
من جاء بهذا الطفل ، الى هنا ، في هذه الساعة؟ تذهب الى المدخل ، لتكتشف ان أخاه ، الذي لا يزيد عمره على العاشرة ، في انتظاره ، يعود الصغير الى أخيه ، معه قليل من القروش ، يرميها الى الارض فرحا ، فهو لا يقدر قيمتها بعد.
وتستمع ، وأنت في حالة ذهولك من حالة قد تكون رأيتها في الهند ، او باكستان ، او في الصومال ربما ، لم تتصور متابعتها في عمان ، الى مفارقات عجيبة ، لحفلات باذخة ، تُصرف فيها عشرات الآلاف من الدنانير ، في عمّان نفسها التي صارت تعرف شكل الفقر يتجوّل في الشوارع.
ولقد شبعنا من كلام الوعود ، فمنظر كالذي شاهدناه للشحاد ابن الرابعة كفيل بايصالنا الى الكفر بالسياسة والسياسيين ، وجدير بأن يجعلنا نرفع الصوت عاليا في وجوه هؤلاء الذين يضيعون اوقاتنا بالكلام المعسول ، دون فعل واحد.
لو كان الفقر رجلا لقتله الامام علي ، لكنه طفل لم يبلغ الرابعة بعد ، ولا يعرف أنّ هناك كلاماً كثيراً يدور حوله ، ويتناول حالته ، دون أن يرى أمامه قليلاً من القروش.