قانون منع الجرائم إشكاليات مُركّبة
د. نهلا المومني
20-11-2019 09:37 AM
تُشير لغة الأرقام إلى وجود ارتفاع مطّرد في أعداد الموقوفين إداريّاً؛ هذا ما كشف عنه تقرير المركز الوطنيَ لحقوق الإنسان الأخير حيث بلغ عدد الموقوفين إداريّاً (37.683) موقوفاً عام 2018م، مقارنةً بـ(34.952) موقوفاً عام 2017م، في حين بلغ هذا العدد (30.138) موقوفاً عام 2016م، بينما بلغ عددهم (19.860) موقوفاً عام 2015م.
هذه المُؤشرات الرقميّة تجعلنا نؤكد على أنّ هناك حاجة ماسّة إلى تتبّع الممارسات العمليّة لقانون منع الجرائم رقم (7) لسنة 1954م وإعادة النّظر في الفلسفة التشريعيّة الكامنة وراء إقراره وصولاً إلى إلغائه او على أقل تقدير تعديله بصورة جذرية. وفي هذا السّياق فإن مبررات تدعو إلى التّوقف والتأمل مُطوّلاً في هذا القانون ومضامينه:
يُخالف قانون منع الجرائم مبدأ الفصل بين السّلطات الذي يُمثّل جوهر النّظام الدستوريّ الأردنيّ، إذ إنّ هذا القانون يمنح السّلطة التنفيذيّة صلاحيات قضائيّة تتمثل في المكنة القانونيّة الممنوحة للحاكم الإداريّ بتوقيف الأشخاص وحجز حريتهم.
ويُشكّل هذا القانون في الوقت ذاته مخالفةً لنص المادة (128/1) من الدستور الأردني التي قرّرت عدم جواز المساس بجوهر الحقوق وأساسياتها بموجب التّشريعات النّاظمة لها؛ والتي تُعتبر الضّمانة الدستوريّة لعدالة التّشريعات البرلمانيّة النّافذة، والرّقيب على عدم مخالفة الدستور، والتي جاءت ثمرة التعدّيل الدستوريّ لسنة 2011م. ناهيك عن أنّ هذا القانون هو قانون قائم على الشّك والاعتقاد بوجود أسباب قد تحمل الشخص على ارتكاب جرم ما أو أن وجوده يُشكّل خطراً على الناس، وهو أمر كافٍ لاتخاذ قرار بتوقيف ذلك الشخص أو فرض إقامة جبريّة عليه. لا بل أنّ هذا القانون ينطوي على خرقٍ للقاعدة الموضوعيّة في الملاحقة الجزائيّة المقرّرة في دول العالم كافةً، والواردة في المادة (58) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960م والمتمثلة بعدم جواز ملاحقة الفعل الجرميّ إلّا مرةً واحدةً؛ حيث تشكل طلبات الإعادة وتوقيف الأفراد بعد إخلاء سبيلهم من قبل السّلطة القضائيّة صاحبة القول الفصل، والتي يعد حكمها عنواناً للحقيقة تجاوزاً جليّاً على هذه القاعدة.
وفي الإطار الموضوعيّ المرتكز على مدى نجاعة هذا القانون في حماية المصلحة التي وُجد ابتداءً من أجلها؛ فالأعداد المطردة للموقوفين إداريّاً تنبئ بأنّ هذا القانون لم يُحقّق الهدف الذي وُجد من أجله، وهو منع الجرائم ولم يُحقّق الرّدع العام والخاص؛ بدليل تكرار الجرائم ذاتها ومن الأشخاص ذواتهم، عدا عن الآثار المُترتبة على الحبس وأهمها انتشار العدوى الجرميّة خصوصاً وأنّ الدراسات المُتخصصّة في علم الإجرام والعقاب أثبتت أنّ للتّوقيف قصير الأمد آثار سلبيّة كبيرة تفوق منافعه. علاوةً على الآثار الاقتصاديّة السلبيّة للقانون وكذلك الآثار الاجتماعيّة والنفسيّة المُترتبة على الموقوف وأفراد أسرته وفقدان الأسرة لمُعيلها.
إنّ قيام دولة الحقّ والقانون يتطلب تشريعات تتّسق والمبادئ القانونيّة الأصوليّة التي تُعلي من قِيم حقوق الإنسان وحرّياته، وقانون منع الجرائم بهذه الصورة يتطلّب ولحين إلغائه تدخلاً تشريعيّاً يؤدي إلى ضمان احترام الأحكام والقرارات القضائيّة أو القرارات الصّادرة بإخلاء سبيل الموقوفين باعتبارها عنواناً للحقيقة وحجّة على الجميع وذلك بموجب نصٍ صريحٍ في القانون، وعدم جواز توقيف من يتم إطلاق سراحه من قبل القضاء إداريّاً. ويتطلّب كذلك إعادة صياغة المادة الثالثة من القانون بصورة دقيقة وواضحة والبُعد عن العبارات الفضفاضة بحيث يتم تحديد الحالات التي يجوز التوقيف فيها على سبيل الحصر دون ترك أي مجال لإجتهاد الحاكم الإداريّ أو العمل بناء على الشُبهة بدون وجود أيّة أدلة مع تحديد مدة التّوقيف الإداريّ وضوابطه وإخضاعه لمبدأ التّسبيب، والنّص صراحة على إحالة الموقوفين إداريّاً الى الادّعاء العام النظاميّ بعد توقيفهم خلال مدّة مُحدّدة بنص القانون للبت في أمرهم، بالإضافة إلى وضع حد أعلى للكفالة وعدم ترك قيمة الكفالة والموافقة على شخص الكفيل للسّلطة التقديريّة للحاكم الإداريّ ووضع عقوبات على من يُخالف شروط التّوقيف وأصوله أو يتعسّف في استعماله من القائمين عليه.
بقي أن نؤكّد على الحقيقة الثابتة بأنّ القانون قد يؤدي دوره في ترسيخ دولة الحقّ، وقد يستخدم أداةً لتوسيع نطاق المُلاحقة من خلال كثرة النصوص الناظمة للفعل ذاته أو من خلال غموضها وعدم دقتها فتُمسي قيداً على الحقوق والحرّيات، فيفقد الإنسان شعوره بالأمن القانونيّ الذي يُمكّنه من التّمتع بحقوقه وحرّياته.