سلسلة تاريخ الحكومات الأردنية على امتداد نصف قرن (2)
د.هايل الدهيسات
02-12-2009 11:48 AM
"نعم كان لي من العمر سبعة عشر عاماً ونصف في الثاني من أيار عام 1953 عندما بدأت ممارسة سلطاتي الدستورية.. عندما أقسمت اليمين أمام مجلس الأمة، كان قد انقضى عام على تنازل والدي عن العرش. كانت يومئذ تتدلى الأعلام من النوافذ في أهم شوارع عمان حيث أقيمت أقواس النصر، من القصر حتى مجلس الأمة. وفي الصباح من هذا اليوم، كان آلاف الناس يملؤون الطرقات بانتظار مروري.. كان هذا أهم يوم في حياتي: كان سيعهد إلي بمسئولية قيادة بلادي وخدمتها".
هذا ما قاله جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله في أحاديثه الملكية، عن ذلك اليوم الذي تسلم فيه سلطاته الدستورية، اليوم الذي شهد بدء المسيرة، وشهد الأردن على امتداد النصف الثاني من القرن المنصرم نهضة حضارية عامة شملت جميع المجالات، سواء أكان ذلك على صعيد الواقع الاجتماعي الأردني أم في الاندماج السكاني الواضح بين فئات المجتمع الأردني المختلفة، والذي يعد المعيار الحقيقي للوحدة الوطنية الأردنية التي نعتز ونفاخر فيها أم في ضبط العادات والتقاليد التي كان الناس يمارسونها أم في النظر إلى مسيرة المرأة الأردنية باعتبارها النصف الآخر للرجل، أم في إيجاد مراكز جديدة كإنشاء مؤسسات المجتمع المدني المختلفة الرسمية منها والخاصة.
إن تحولاً ما في المجال العلمي والثقافي كما هو في المجالات الحضارية الأخرى قد شهده الأردن منذ أواسط القرن الماضي من تاريخ الحكومات الأردنية المتعاقبة، كان قد شكل بذلك ثورة ثقافية جذرية في بنية المجتمع الأردني، وكان لهذه المتغيرات الجديدة الأثر الكبير لاحقاً في إنشاء مراكز وقمم علمية كبيرة يرتادها طلاب العلم من كل فج وصوب، سواء أكان داخل الأردن أو خارجه، وصَدَّرَتْ هذه المؤسسات العلمية كوكبة من المثقفين والرواد، وأنتجت تراثاً علمياً في مختلف نواحي العلوم.
يمثل عهد الملك الحسين رحمه الله الفترة الذهبية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، وقد شهدت بدايات عصره حضور شخصيات سياسية أردنية شعبية ربما لا تتكرر في تاريخ الأردن المعاصر، حيث يعد دولة هزاع المجالي رحمه الله من أبرز الشخصيات السياسية والشعبية في تاريخ الأردن، وهو من مواليد الكرك ـ الربة لعام 1919 كان قد درس القانون في سوريا ليعود رجل دولة، ويعمل في الديوان الملكي العامر، وقد تبوء مراكز سياسية متقدمة ومتعددة في الدولة الأردنية، كرئيسٍ لبلدية عمان، ثم وزيراً للزراعة، ووزيراً للعدل، ثم للداخلية. وكان قد نجح في الانتخابات النيابية عن الكرك لدورتين 1951 و 1954.
كانت جهود دولة هزاع المجالي في خدمة وطنه ومليكه قد تكللت بصدور الإرادة الملكية السامية بتكليفه بتشكيل حكومته الأولى في عهد الملك الحسين، وكان ذلك يوم 15 كانون الأول عام 1955. إذ هدفت حكومته للتفاوض مع حكومة المملكة المتحدة حول الدخول في حلف بغداد.
تبدأ قصة هذا الحلف عام 1955 حينما سعى نوري السعيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي جاهداً لضم الأردن إليه، وهو الاتفاق الدفاعي الذي ضم العراق وتركيا برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للحيلولة دون تغلغل نفوذ الاتحاد السوفيتي سابقاً في المنطقة، ولغيرها من الأسباب زار الملك الحسين مملكة العراق في الرابع من شباط عام 1955 في محاولة منه لمعرفة حقيقة الحلف التركي العراقي.
كان على حكومة المجالي أن تعرض نتائج المفاوضات على مجلس الأمة، إلا أن المظاهرات نشبت ضد محاولة دخول الحكومة الأردنية في الحلف، فعمد دولة هزاع المجالي لتقديم استقالة حكومته يوم 20 كانون الأول من عام 1955.
وتعد حكومة المجالي أقصر الحكومات الأردنية عمراً منذ تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921م، حتى تاريخ حكومة دولة المهندس نادر الذهبي، إذ لم يستمر المرحوم هزاع المجالي في الحكم كرئيس وزراء سوى ستة أيام. والسبب في قصر حكومة المجالي أن إرادة ملكية أصدرت قراراً بحل مجلس النواب يوم 19 كانون الأول عام 1955.
وإذا كان هذا هو مصير حكومة هزاع المجالي الأولى، فان حكومة دولة إبراهيم هاشم الثالثة التي تشكلت يوم 21 كانون الأول عام 1955 لم تكن أحسن منها حالاً؛ إذ لم تستمر في الحكم سوى سبعة عشر يوماً.
وبعد مرور بضعة أيام من تأليف حكومة دولة إبراهيم هاشم، التي تشكلت كحكومة انتقالية للإشراف على إجراء انتخابات نيابية مبكرة، فقد تبين أن وزير الداخلية لم يوقع مرسوم حل مجلس النواب في عهد هزاع المجالي كما تقضي بذلك المادة 40 من الدستور، وبناء على ذلك أصدر المجلس العالي لتفسير القوانين قراره بأن الإرادة الملكية بحل مجلس النواب لم تكن مستوفية شروطها الدستورية، وبالتالي يعتبر المجلس قائماً فسارع دولة إبراهيم هاشم لتقديم استقالته من منصبه كرئيس للوزراء في 7 كانون الثاني 1956.
لقد تآزرت بعض القوى في المدن والقرى الأردنية، لتحدث موجة جديدة من المظاهرات وإثارة القلاقل احتجاجاً على بقاء واستمرار مجلس النواب، فأمر جلالة الملك الحسين يوم 8 كانون الثاني عام 1956 بتشكيل وزارة جديدة برئاسة دولة السيد سمير الرفاعي لتعمل على ترسيخ سيادة القانون وهيبة الدولة، فاتخذت الحكومة في أولى خطواتها إجراءات أمنية أدت إلى فرض الأمن والنظام في المملكة الأردنية الهاشمية.
ولقد أدرك دولة سمير الرفاعي في بيانه الوزاري الذي أعلنه في السادس عشر من كانون الثاني عام 1956 أمام مجلس النواب الأردني مؤكداً انه ليس من سياسته الدخول أو الارتباط بأية أحلاف جديدة، وأن حكومته ستعمل على تعزيز التضامن العربي، وتؤمن بأن وحدة الأمة العربية هي الشرط الأساسي والركن الأول في حياتها وسلامة كيانها.
وأكدت حكومته على صيانة الحريات العامة واحترام حقوق الشعب وفقاً لأحكام الدستور، والعمل على تقوية الجيش العربي الأردني فضلا عن تأمين الاستقلال الاقتصادي.
ولعل أبرز التطورات التي شهدتها حكومة الرفاعي في هذه الفترة من تاريخ الأردن الحديث هي القرار التاريخي لجلالة الملك الحسين بإعفاء رئيس هيئة أركان الجيش العربي الأردني "جون كلوب" البريطاني الجنسية الملقب أبو حنيك، وهو لقب أطلقه البدو عليه لأن أحد فكيه كان مشوهاً - الذي كان قد التحق بصفوف الجيش عام 1930 - والضباط البريطانيين المرافقين له من مناصبهم العسكرية. الأمر الذي أدى إلى نهاية عهد النفوذ البريطاني القوي في المشهد السياسي الداخلي للمملكة الأردنية الهاشمية، لتبدأ مرحلة جديدة لبناء الجيش من نقطة الصفر محفوفة ببعض المصاعب الداخلية والخارجية.
ففي هذا السياق، قال جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله في أحاديثه الملكية: "فاستقالة الجنرال كلوب بعد خدمة في الأردن بلغت ستة وعشرين عاماً، كانت حدثاً مهماً. وينبغي أن يكون المرء أردنياً أو أن يعرف مشاكل بلادي معرفة عميقة، ليتسنى له إدراك أهمية هذا الحدث إذ توجد دوماً في تاريخ البلدان الصغيرة لحظات حاسمة يتوجب على المرء فيها أن يكبح جماح عواطفه الشخصية، وأن يطلق العنان للموضوعية. وهذه كانت الحال بالنسبة للجنرال كلوب فقد أحدثت استقالته بعض الدهشة والذعر في العالم.. يجهل الرأي العام عموماً أن عزل الجنرال كلوب كان قضية أردنية تماماً. لأن كلوب كان قائداً عاماً للجيش العربي الأردني. وكان يعمل لحساب حكومتي".
وفي تاريخ 20/5/1956م قدمت وزارة دولة السيد سمير الرفاعي الرابعة استقالتها، وقبل ذلك كانت قد تكفلت بإصدار قرار تنحية كلوب في تاريخ 1/3/1956م، وعهدت إلى العميد راضي عناب برئاسة أركان الجيش، الأمر الذي استقبله الشعب الأردني بفرحة عارمة.
وكان لهذا القرار أثر واضح في التحول والتغيير الذي طرأ على تاريخ الأردن الحديث، ونهجه الوطني والقومي الملتزم بدعم القضايا العربية وجوهرها.
وهكذا نكون قد ألقينا بعض الأضواء على المشهد السياسي لتاريخ الحكومات الأردنية منذ تولي الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية، من خلال مقالتنا هذه التي تمثل السلسلة الثانية من المشهد السياسي لتلك الحقبة الزمنية على أمل استكمال السلسلة إنشاء الله.
كاتب وباحث
dr.hayel66@yahoo.com