قيل أن الفيلسوف الفرنسي فولتير قال: "إذا شئت أن تحاورني فلتحدد ألفاظك. ماذا تعني ب "التقدم"؟" (1)
هذا فرانسوا ماري آروويه يرفض أن يبدأ أي حوار قبل أن يحدد محاوره مدلول ألفاظه. والكلمة لفظ ومدلول، فإذا لفظ المحاور لفظة "تقدم" مثلا لا حصرا، يفترض به أن يحدد المدلول الذي يريد به أن يحاور مؤلف رواية (كانديد) حوله، وطبعا فولتير الراقد في مقبرة العظماء ما كان ليقبل أي مدلول للفظة "تقدم" ما دام أن المدلول ليس موضوعيا.
وقس على ذلك العديد من الألفاظ الأخرى، مثل "الحقيقة" و"السعادة" وضديدها "التعاسة" و"الحرية" و"الدين" و"الحق" ونقيضه "الباطل" وغيرها من ألفاظ نظن أننا نعرف معناها وندرك مدلولها، ولكن حين يسألنا سائل: ما هي "الحقيقة"؟ لربما تجدنا فاغرين أفواهنا نحك رؤوسنا غير دارين ماهية "الحقيقة".
وللكاتب الأميركي ديفيد فوستر والاس حكاية قصيرة ذات معنى عميق في السياق ذاته أنقلها لك عزيزي القارئ بتصرف: في عمق أحد المحيطات، مرت سمكة عجوز بسمكتين يافعتين تسبحان معا. وسألت السمكة الكبيرة السمكتين الصغيرتين: كيف كانت رحلتكما في الماء؟ فأجابتا معا: أوووه لقد كانت الرحلة ممتعة. وأكملت السمكة العجوز طريقها تتطوح في السباحة يمنة ويسرة، أما السمكتان الصبيتان، وبعدما خاضتا في الماء بعيدا، نظرت كل منهما إلى الأخرى، وتساءلتا معا: ما هو الماء؟ (2)
في حياتنا السياسية، ثمة مد وجزر حول مفاهيم عدة ومصطلحات عديدة كالإصلاح والديموقراطية والمدنية والليبرالية وحقوق الإنسان والفساد بكافة أشكاله وغيرها. وفي الأردن هنا عدة أحزاب، لكل حزب منظوره الخاص به حول كل مفهوم من المفاهيم والمصطلحات السابقة وغيرها، فهذا الحزب يرى في "العلمانية" خير إصلاح لهذا البلد الأمين، بينما ذاك الحزب يعتقد أن "الثيوقراطية" أفضل السبل لإصلاح هذا الوطن الغالي، وحزب ثالث يتطلع إلى "التكنوقراطية" كأحسن وسيلة لإصلاح هذة الدولة القرنية من الزمان، ولست أدري حقا أي من هذه الأحزاب مصيب في نظرته لكيفية تحقيق "الإصلاح" وأي منها مخطئ. أتدري أنت؟
ويزداد الأمر تعقيدا إذ تشاهد ندوة تلفازية أو يوتيوبية أو تحضر ندوة في أحد المنتديات المنتشرة هنا وهناك على طول البلاد وعرضها جامعة حزبين على الأقل على طرفي نقيض من الدرب الأرحب "للإصلاح"، كل حزب يقدم لك ما تيسر لديه من أدلة عقلية ونقلية تثبت صحة وجهة نظره في أن "الإصلاح" لن يتم إلا ب "الأيديولوجيا" التي يدعو لها آناء الليل وأطراف النهار. ومثل هؤلاء الذين لا ينظرون للحياة السياسية إلا بمنظار المنطق الأرسطو طاليسي، تعج بهم صالونات عمان السياسية، وتغص بهم مضافات ودواوين العشائر الكبرى منها والصغرى.
قام منطق أرسطو طالبس على منهج الإستنباط، والمنهج هذا مبني على ما يسمى ب "المقدمة الكبرى"، و "المقدمة الصغرى"، و" النتيجة". وخير مثال يستعين به المناطقة لتوضيح آلية هذا المنهج هو المثال التالي:
كل إنسان فان (مقدمة كبرى)
سقراط إنسان (مقدمة صغرى)
إذن سقراط فان (نتيجة)
وقد يعجب القارئ بروعة هذا المنطق إعجابا كبيرا كما أعجبت به أشد إعجاب حينما درسته في مادة الثقافة العلمية في الصف الأول الثانوي العلمي عام (1995).
لكن، لو تأملنا قليلا بالمقدمة الكبرى للمثال أعلاه، وأخذنا بعين الإعتبار نظرة عدة أديان لها لوجدناها قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة المطلقة.
خذ مثلا الإسلام، ونظرته لإبن مريم. فالإسلام ينظر إليه أنه إنسان، وعليه ووفقا للمثال أعلاه مدعوما بما ذهب إليه القرآن في أحد مواضعه "كل من عليه فان" (الرحمن: 26)؛ فإن ابن مريم يفترض به أنه مات، لكنه، وفقا للقرآن نفسه لم يمت بعد، إذ رفعه الله إلى السماء يوم أراد اليهود صلبه، "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي" (آل عمران: 25).
خذ مثلا التوراة فيم تقول عن إيليا. فهذا إيليا التوراتي رفع إلى السماء منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام (3)، وهو إنسان وما هو بفان حتى اللحظة! وهناك أخنوخ تقول عنه التوراة أنه حي في السماء منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام حتى كتابة هذه السطور! (4). والتوراة يؤمن بحاليتها اليهود والمسيحيون.
أما الشيعة من الإسلام، فعندهم الإمام الثاني عشر ينتظرونه على أحر من الجمر لخلاصهم مما هم عليه من أحوال لا يحسدون عليها على حد زعمهم.
ومريم بنت يهوياقيم لا تؤمن المسيحية بأنها ممن أدركتهم المنية، بل تؤمن بها أنها رفعت بالنفس والجسد إلى السماء، ومن يستطيع أن يثبت العكس من ذلك فليقدم دليله.
إذن، حتى أشهر مقدمة كبرى "كل إنسان فان" في منطق المناطقة ليست مسلمة من منظور عدد من العقائد والمذاهب.
رب معترض -وما أكثر المعترضين الآن في أغلب ظني- يدلي بدلوه في هذه المسألة إذ يقول: "إبن مريم على سبيل المثال والحصر سيأتي ليقتل المسيح الدجال ثم سيموت".
هذا اعتراض غيبي لا يدخل في نطاق المحسوس الذي يعشعش فيه مثال المناطقة أعلاه. هم قالوا: كل إنسان فان، والإسلام يقول أن إبن مريم لم يفن حتى اللحظة، لكنه سيفنى. أما "لم يفن" فهذه تكاد تكون أقوى ضربة لتلك المقدمة الكبرى، وأما "لكنه سيفنى" فإلى تلك اللحظة يبقى المنطق العقلي في المثال أعلاه رهين الشك والريبة. والأمر عينه ينطوي على إيليا وأخنوخ والإمام الثاني عشر ومريم.
إذن، المنطق العقلي ليس أداة سليمة بالمطلق لاستنباط الحلول للمشاكل أيا كان نوعها، وعلى رأسها ما تواجهه حياتنا السياسية من مأزق في تحديد "الأيديولوجيا" الأنسب لما فيه تقدم الوطن وازدهاره.
عندي طرفة من نسج خيالي كثيرا ما ألقي بها على مسامع السامعين لي كي أوضح وجهة نظري من أية قضية يتناطح عليها عنزان، وللقارئ العزيز أن يستنتج منها ما شاء من إستنتاجات.
كانت إحدى المعلمات تشرح لطلابها في أحد الصفوف الإبتدائية أهمية أن يكون الإنسان وسطا في كل شأن من شؤون حياته؛ وضربت لهم مثالا على ذلك في استخدام المال؛ فنصحتهم بألا يبسطوا أيديهم كل البسط وبنفس الوقت ألا يجعلوها مغلولة إلى أعناقهم حتى قالت لهم: "تذكروا دائما أن خير الأمور أوسطها" ثم التقطت الطبشورة، وخطت على السبورة تلك العبارة، وطلبت من الطلاب نسخها عشرين مرة. إذ ذاك رفع طالب يده يستميحها مداخلة، فسمحت له، فرمى بمداخلته وكله خبث: ما دام أن خير الأمور أوسطها، فلا بأس إذن من السير وسط الشارع! وضج الصف ضحكا، أما المعلمة فمحت العبارة وطلبت من الطلاب أن ينسوا أمرها حتى إشعار آخر.
لعلني لا أغالي إذا ما قلت بأن في حياة كل واحد منا نموذج حي على كل من المعلمة والطالب، ونظرة كل منهما لتلك العبارة، لكن هل اعتبر أحدنا من ذلك بأن لا "أيديولوجيا" محددة ولا مبادئ معينة ولا حتى فلسفة أو دين ما يكون أو تكون الحل السحري لأية مشكلة من مشاكلنا في كل زمان ومكان؟
حتى أمثالنا الشعبية التي هي عصارة تجارب ما مر به مجتمعنا عبر تاريخه الطويل تجدها تقف أحيانا على طرفي نقيض من مسألة ما.
فكثيرا ما تجد نفسك محتارا فيما إذا كان عليك تنفيذ قرار اتخذته مسبقا. هل تنفذه اليوم أم غدا؟ فأما الصديق العجول بطبعه فسوف يقول لك: "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، وأما الصديق الطويل الروح والبال بخلقه فسوف يقول لك: "في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة"، أما ثعلب الصحراء رومل فيقال بأنه قال لسائقه ذات مرة: قد على مهلك؛ فلدي موعد مهم جدا يجب ألا أتأخر عليه ثانية واحدة.
فإذا كانت الأمثال والحكم نفسها متباينة في وجهة نظرها من أمر ما، فما هو حال مواقفنا من "الأيديولوجيا" الأمثل للسير على خطاها في سبيل" الإصلاح"؟
قبل نحو أكثر من خمسة عشر عاما نشر الفنان المبدع عماد حجاج كاريكاتيرا حول "الإصلاح". الكاريكاتير كان معبرا أروع تعبير عن المشهد السياسي آنذاك والذي لا يكاد يختلف قيد أنملة في ملامحه عن نظيره الحالي. كان أبو محجوب واقفا على منبر ينادي بالإصلاح من بوق الكلمات التالية:
طاح العنب طاح
يا عيني عالإصلاح
يا روحي عالإصلاح
سنقوم بالإصلاح
من الداخل يا إصلاح
من الخارج يا إصلاح
خيارنا الإصلاح
أصابيع البوبو الإصلاح
نادي عالناطور
يعطينا المفتاح!
والمشكلة العويصة تكمن في أي مفتاح يفترض بالناطور أن يعطينا: أمفتاح "العلمانية" أم "الثيوقراطية" أم "التكنوقراطية" أم غيرها من مناهج سياسية يبرز الإختلاف حول كل منها في أوج صورة له بين التيارات السياسية الوطنية في كل مرة ينادي فيها أبو محجوب بالإصلاح؟
هذا الإختلاف في نظرة مختلف الأطياف السياسية "للأيديولوجيا" الملائمة لتنفيذ أجندة "الإصلاح" يدعونا للتفكر مليا فيما قاله فولتير في مقدمة هذا المقال، وتدفعنا للتساؤل حول ماهية "الأيديولوجيا" الأنسب لإصلاح هذا الوطن،
هوامش المقال:
(1): كتاب "مباهج الفلسفة"، لمؤلفه ول يورانت، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، تقديم إبراهيم بيومي مدكور، وزارة الثقافة الأردنية، ص (71).
(2): كتاب "ما الذي حدث؟"، لمؤلفته هيلاري رودهام كلينتون، ترجمة: أسامة أسعد، ميراي يونس، رائد القاقون، ابتسام خضرة، الطبعة الأولى (2018)، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ص(121).
(3): التوراة، الملوك الثاني (2-11): "وفيما كانا سائرين وهما يتحادثان إذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما وطلع إيليا في العاصفة نحو السماء".
(4): التوراة، التكوين (5-24): "وسلك أخنوخ مع الله، ولم يوجد بعد لأن الله أخذه".