شد انتباهي قبل ايام مقال عميق الدلالات لأكاديمي قطري مستنير، كان عميداً سابقاً لكلية الشريعة بجامعة قطر. هذا الأكاديمي هو الدكتور عبد الحميد الانصاري، عنوان مقاله المنشور في صحيفة "العرب" القطرية هو "أوهام وهواجس الغزو الفكري".

في مقدمة مقاله يقول: "أمة الدعوة تخشى الغزو الفكري لمجتمعاتها، تحصّن دفاعاتها امام الافكار والثقافات الوافدة. بدءاً بثورات الخمسينات عَسْكَرنا مجتمعاتنا وحَصّنا منظومتنا الدفاعية الثقافية والتعليمية والدينية والسياسية مما تصورناه غزواً فكرياً". بالطبع هو يرفض هذا الوهم.

مما أشار اليه هذا الاكاديمي القطري البارز صحيح تماماً، صوّرنا انفسنا بأننا "امة مستهدفة" لذلك وجدنا إعلامنا العام الرسمي والمعارض – وكما يشير د. الانصاري يُحذر من طمس هويتنا واضعاف لغتنا وفرض القيم الغربية وأبرزها "العلانية" على مجتمعاتنا!

"هواجس الغزو الفكري هيمنت على العقلية والنفسية العربية. وعوقتها عن الافادة من أفكار ونظم المتقدمين بما يطور مجتمعاتنا ويحقق تقدمها". (د. عبد الحميد الانصاري).

يستغرب هذا المفكر المستنير هذه النظرة القاصرة التي تتبناها نخبة من المثقفين العرب، قائلاً في مقاله:
"استحسانك لفكرة او فلسفة او نظرية او نظام إداري او سياسي او تنموي او اسلوب تربوي او تعليمي لدى الآخر المتفوق، والدعوة الى نقلها الى مجتمعك والإفادة منها، لا يُعد غزواً، بل هو تفاعل ثقافي مثمر، يرقى بمجتمعك".

وهنا اودّ ان اضيف الى ما ذكره الكاتب بأن اي غزو ثقافي لن ينجح في التأثير على المجتمع المغزو الا اذا كان هذا الأخير يعيش خواءً ثقافياً لا يستطيع الصمود أمام الثقافة الغازية سيما اذا كانت تخلو من البعد الانساني.

يقول مفكر يساري هو الدكتور صادق العظم في هذا السياق: "لو أن جزءاً من الجهود البذولة في التنديد بالغزو الثقافي وقسماً من الصفحات الهائلة العدد المتخصصة لفضحه قد كُرسا لإنتاج فعل ثقافي ايجابي راهن، يملأ حيزاً متواضعاً في خواء حياتنا العلمية والثقافية والفكرية المعاصرة، لكنّا قطعنا شوطاً لا بأس به على طريق التصدي الفعلي وليس الشفوي للغزو الثقافي". (د. صادق العظم: "ذهنية التحريم" ص 116)

بالطبع هو يدعو الى الانفتاح على ثقافة الغرب ولا يعتبره غزواً ما دُمنا قادرين على التمييز بين الغث والسمين منه.
الدكتور عبد الحميد الانصاري يميز في مقاله العميق الغور ما بين فكر إنساني خلاق وآخر استعلائي – اذا جاز التعبير- يحط من فكر الآخرين على نحو عنصري بغيض.

"... لو ظلت اليابان وتركيا ونمور آسيا تخشى الغزو الفكري وتحصّن نفسها منه لما حققت تقدمها". (د. عبد الحميد الانصاري)

منطق يجب ان نستوعبه.

يبق أن اقول ان هذا الاكاديمي في مقاله "اوهام وهواجس الغزو الفكري" يدعو المثقفين العرب من قوميين ويساريين واسلاميين الى الاعتراف بصيرورات التاريخ وتحولاته. "قراءة هذه الصيرورات يُحرننا من اوهام الغزو".

يدعوهم الى قراءة مفهوم "الاصالة" التي نعتز بها قراءة مستنيرة، فلا نحاول إحلالها محل مفهوم حداثة العصر، إحلالها معناه النُّكوص عن التقدم.

اعتزازنا بِ"اصالتنا" لا يعني إنكارنا لأصالة الآخرين التي تتجلى في فكرهم الانساني.