السينما خالية، مقاعد وثيرة وموسيقى صاخبة لا تؤنس أحدا. يقول المهرج الثائر للمعالجة النفسية بهدوء مريب: "هل أنا من يزداد غرابة أم أن العالم يزداد جنونا في الخارج"؟ ترد عليه بحذر، فيتابع: "أسوأ ما في المرض العقلي هو أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف وكأنك لست مصابا به! لم أعد أريد الشعور بالألم... أرجو أن يكون موتي منطقيا أكثر من حياتي"!
فكرت فيما وراء نصّ قاتم يبرز (بعضا) من الوجوه المظلمة للحياة. نص كتبه مؤلفون يبدو أنهم كانوا محبطين أو أنهم ينظرون إلى الحياة بواقعية أكثر مما يجب. وممثل كانت حياته الحقيقية مليئة بالتناقضات والتعرجات تمامًا مثلما كانت حياة الشخصية التي تقمصها وخاض في متاعبها وأداها بعبقرية وبراعة مطلقة. وفي الحقيقة حين تكون وحيدًا تمتد الأفكار. وتذكرت نصيحة أربعة من صديقاتي بأنه لا يتوجب علي مشاهدة الفيلم كوني سوداوية (ومش ناقصني كآبة) بحسب تعبيرهن .
بدأ الفيلم بمشهد القمامة التي ملأت أحياء مدينة جوثام وانتهى بثورة في الشارع مجدت المهرج الثائر.
تدور أحداث فيلم Joker حول “آرثر فيلكس” المهرج البسيط الذي يحلم بأن يصبح standup comedy على الرغم من أنه لا يمتلك أي حس دعابة حقيقي، عدا عن الاضطراب النفسي الذي يعانيه ويتميز بنوبات من الضحك أو البكاء المفاجئ المستمر ما يحول دون وقوفه على خشبة المسرح لأداء أي دور أو تقديم أي فقرة. تعرض آرثر منذ طفولته إلى العنف والتنمر والاضطهاد والعديد من الصدمات النفسية والتي أدت عند منعطف معين -شعر عنده باللاجدوى- إلى غفوة نصفه المستكين وصحوة النصف القوي المتمرد الشرس والثائر لكرامته، ليرتكب فيما بعد سلسلة من الجرائم بهدوء وبدم بارد.
يؤخذ على صناع الفيلم تعزيز الصورة النمطية التي تشير إلى وجود صلة بين المرض النفسي و/أو العقلي والعنف، على الرغم من أن جرائم يندى لها جبين الإنسانية حدثت عبر التاريخ ولا زالت تحدث حتى في أكثر المجتمعات تحفظا، ارتكبها أشخاص لا يوجد أي دليل على اعتلال نفسي أو مرض عقلي لديهم. وآرثر أو جوكر، كان ولا بد في يوم ولادته طفلًا طبيعيًا، وما شخصيته المعتلة إلا نتاج إهمال محيطه وظلم المجتمع. نسخة خواكين فينيكس من الجوكر مختلفة عن نسختي جاك نيكلسون وهيث ليدجر السابقتين، لكن الخطوط العريضة للشخصية بقيت ثابتة بالشكل الذي يحول دون انفلاتها وتشتت المُشاهد كلما انتقلت بين مؤلف وآخر وممثل وآخر وتفاصيل صيغت بشكل مختلف في كل مرة.
أرهقتني التفاصيل في هذا العمل حتى أني نسيت يدي على خدي طوال مدة عرض الفيلم، ولفرط قهري عافت نفسي الماء رغم عطشي. بيد أنني أصبت بالملل في الكثير من المشاهد رغم التصوير المدهش والموسيقى التي كانت تصعد الموقف النفسي حتى عندما كانت تخلو من أي حوار!
عدد لا بأس به من النقاد حذر مما يحمله الفيلم من عنف وتمجيد للجريمة وتأليه للمجرم، لكن الموضوع أعمق من ذلك بكثير. فإن الأمل على ما يبدو مقيد بالواقع وأدواته. ذلك الأمل المنشود قد يكون مرهونًا في شرارة أو إشارة أو وردة أو هدف في مرمى أو حتى في جثة!
احتفال الجماهير المسحوقة والمهمشة في مدينة جوثام بثورة المهرج آرثر يشبه احتفال جماهير ريال مدريد بهدف راموس أمام أتلتيكو مدريد في الدقائق الأخيرة من نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2014. مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق النفسي والظرفي لجماهير جوثام وجماهير الريال. ذلك الهدف الذي غير مجرى المباراة ليحسم البطولة فيما بعد لصالح الميرينغي، تحدث عنه في حوار أجري معه اللاعب الكرواتي مودريتش فقال: "أن هدف زميله الإسباني أطاح بعائق نفسي كبير داخل ريال مدريد بعد سقوطه مرات عدة في الدور قبل النهائي للبطولة الأوروبية". وتابع: "هدف سيرخيو تجاوز هذا الحاجز العقلي، لقد كان هدفا تاريخيا غير كل شيء، ربما لولا ذلك الهدف لم تكن لتتحقق كل تلك الإنجازات التي توالت تباعا فيما بعد".
وكما فعل راموس حين أطاح بعائق النحس والرهبة لدى أعضاء فريقه، وقادهم فيما بعد لصدارة البطولة لأربعة أعوام بعد غياب دام ١٢ عاما عن تحقيق اللقب، فإن الجماهير المسحوقة ليست إلا قنابل موقوتة بحاجة إلى رسول خلاص يطيح أولا بعائق الخوف لديها ويقودها للنصر حتى لا تنتهي أحلامها، ولا تنفجر وتنتشي بالعنف والدماء. فحين يموت الناس من الفساد والإهمال والقهر واليأس، سيتحمسون بلا شك لمبايعة الأمل حتى لو كان مهرجا ثائرا متوجا على عرش الفوضى.