«أولم نمكّن لهم حرماً آمنا»
محمد حسن التل
01-12-2009 02:58 AM
أنهى حجاج البيت العتيق امس ، مناسك الركن الخامس للاسلام ، وهم بالملايين ، وسط اجواء من الأمن والطمأنينة ، وسقطت بذلك كل الرهانات المشبوهة ، التي نادت بتعليق موسم الحج لهذا العام ، بحجة فايروس انفلونزا الخنازير ، الذي يغزو العالم.
ونسي هؤلاء او تناسوا ، قرار الله عزّ وجل ، بجعل البيت الحرام آمناً على المدى ، قال تعالى: "وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من ارضنا أولم نمكّن لهم حرماً آمنا يجبى اليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن اكثرهم لايعلمون".
ترى ، من يستطيع ان يجمع اكثر من ثلاثة ملايين انسان في بقعة صغيرة ومحدودة ، يتحركون بحركة واحدة ، منسجمة ومتآلفة بدون مفاجآت ، غير الله عزّ وجل.
لقد أراد الله تعالى الحج عبرة للبشر ، والمتأمّل بهذه الصورة ، يخرج مندهشا من التمازج الرائع ، وتذكّره هذه الصورة الروحانية ، وهو يتأمل الملاءات البيضاء ، وكأنها الاكفان ، وهنا تبرز عبرة الولادة والموت في الحج ، وحشود الملايين تهتف بلغة واحدة ، بنشيد التوحيد الخالد.
الحج ليس عبادة شكلية ، بل هو فعل حركي ، من اهم ما أنتجته الشريعة الاسلامية ، والحج في مظاهره ، هو صيحة الانسانية في الدعوة الى التوحيد والمساواة ومقارعة الكفر والطاغوت ، ويتضح لدارس عناصر الحج ، الهدف الأسمى من هذه العبادة ، حيث اراده الخالق جلّ جلاله ، صورة منسجمة بين الافعال والاقوال ، وايجاد جو من القدسية والامان ، وترتبط افعال الحج بحركية الاسلام نفسه ، وبالابعاد السياسية والاجتماعية والنفسية والتربوية والاقتصادية ، وبكل عناصر حياة الانسان ، وتتجاوز الى الفطرة والنفس البشرية ذاتها.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: هناك تتنفس الانسانية ، التي خنقها دخان البارود وعلامات الحدود ، سيّد ومسود وعبد ومعبود ، وتحيا في عرفات ، حيث لا كبير ولا صغير ، ولا عظيم ولا حقير ، ولا غني ولا فقير ، هنالك تتحقق المثل العليا ، التي لم يعرفها الغرب ، الا في ادمغة الفلاسفة وبطون الاسفار ، فتزول الشرور وترتفع الاحقاد وتعمّ المساواة ويسود السلام.
ما أردت الوصول اليه ، ان الله عزّ وجل ، اراد فرض الحج ووفر الأمن لكل من قصد البيت الحرام ، لأن الحج - كما قلنا - ارتبط ارتباطاً مباشراً بالاسلام في العدل والمساواة والتوحيد ، ففي الحج تبرز صورة الاسلام الناصعة ، التي حاول البعض تشويهها ، بحجج هي أضعف من أصحابها ، وما حدث في هذا العام ، اكبر دليل على قولنا.
دلّوني على تجمع ، حتى لو كان أصغر بكثير من تجمّع الحج ، وربما تشرف على تنظيمه دول عظمى ، لا تحدث فيه مفاجآت ولا ينفلت من سيطرة منظميه ، الا الحج ، فان الملايين فيه تتحرك حركة واحدة ، في دائرة شبه مغلقة ، بكل أمن وطمأنينة ، وتعزف على لحن واحد وخالد ، يحرسهم جنود الرحمن ، "وما يعلم جنود ربك الا هو".
الحج عبرة وتأمل ، والناس بأيامه يكونون في رحاب ربهم وضيافته - وكلنا في رحاب الله - فهل يخذل الجليل الاعلى ضيوفه وهو الرحيم بهم فلتسقط كل الدعاوى المشبوهة والفتاوى المدفوعة ، امام ارادة الله وحكمته. وسيبقى اذان الحج يدوّي بالخافقين على المدى ، ما دامت حياة تسري على الارض.
* الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الدستور ..