صندوق وطني للمسؤولية المجتمعية
د. سامر إبراهيم المفلح
09-11-2019 10:05 PM
تقوم العديد من شركات المساهمة العامة والخاصة بتقديم مجموعة من التبرعات المادية والعينية أو بدعم مبادرات ومشاريع غير ربحية كشكل من أشكال المسؤولية المجتمعية "Corporate Social Responsibility" والذي يشار إليه اختصارًا "CSR"، لتؤثر هذه التبرعات والمبادرات إيجابيًا على البيئة والمجتمعات التي تنشط فيها هذه الشركات، وتعرف المسؤولية المجتمعية بأنها التزام واهتمام المؤسسات بالمحيطين بها وأصحاب المصلحة بشكل أكبر مما ورد في التشريعات.
ولهذا فوائد مباشرة وغير مباشرة على الشركات، كانعكاس مسؤوليتها وتبرعاتها إيجابيًا على صورتها وعلامتها التجارية، وبهذه الحالة يرغبها المستهلكون بشكل أكبر، كما أشارت بعض الدراسات إلى أن مستويات الرضا والولاء الوظيفي أعلى بين الموظفين الذين تكون شركاتهم على قدر عالٍ من المسؤولية المجتمعية، إذ يرون أن لمؤسساتهم هدفًا ساميًا كبيرًا يتعدى الأرباح المالية ويؤثر إيجابًا على حياة الناس، وبالعادة فإن الشركات المسؤولة مجتمعيًا تكون أساسًا مسؤولة تجاه موظفيها أولًا فيتمتعون بمزايا ومنافع عديدة تحقق لهم الاستقرار النفسي والاقتصادي والاجتماعي.
كما أن من الفوائد غير المباشرة للمسؤولية المجتمعية خصوصًا للمجتمعات التي تنشط فيها أعمال هذه الشركات هو تحقيق الاستقرار في محيط وبيئة عملياتها والذي يساهم إيجابًا في السلم والأمن المجتمعي في أماكن نشاطها، وتساعد مبادرات المسؤولية المجتمعية في تعزيز القدرة الاقتصادية والتنمية البشرية لسكان هذه المجتمعات والذي سيؤثر على إقبالهم على منتجات هذه الشركات ويوفر العمالة المناسبة مستقبلًا.
وبحسب أدبيات المسؤولية المجتمعية فهناك أربعة مواقف قد تتبناها الشركات من المسؤولية المجتمعية أدناها يقع ضمن مفهوم "Laissez-Faire"وما يُعرف بالمبدأ الاقتصادي "دعه يمر دعه يعمل" أو "عدم التدخل" لتترك الحكومة التجارة دون التدخل فيها، وهو مفهوم رأسمالي- تدعمه الليبرالية الاقتصادية- يرفض التأثير الحكومي على السوق، وفي هذه الحالة تكون مسؤولية الشركة الاجتماعية مقصورة في تعظيم أرباح المساهمين والامتثال للقوانين.
أما الموقف الثاني من المسؤولية المجتمعية فقد يكون تحت مبدأ المصلحة الذاتية المستنيرة "Enlightened Self-Interest" وهي فلسفة أخلاقية ترى أن الأفراد الذين يتصرفون من أجل مصلحة الآخرين يحصلون بالمحصلة على نفع ذاتي، فإذا استثمرت شركة في تعليم وتطوير موظفيها وبإنشاء مناطق سكنية لهم سينعكس ذلك على ولاء موظفيها وقدرتها على استقطاب كفاءات أفضل، وإذا استثمرت شركة في تطوير معايير السلامة لمنتجاتها سينعكس ذلك على ميزتها التنافسية في السوق، وعلى نسق ذلك من الأمثلة المتعددة التي لا يمكن حصرها.
الموقف الثالث قد يكون بأن تتبنّى المنظمة المسؤولية المجتمعية لفئة محددة كجزء من أهدافها، أما الموقف الأخير والأعلى تجاه المسؤولية المجتمعية هو ما يُعرف باصطلاح "المشكل للمجتمع" "Shaper of Society"وفي هذه الحالة تكون الأهداف الربحية المالية ليست الأولوية كما هو الحال في الجمعيات الخيرية وفي بعض الشركات الخاصة، ومن الصعب تطبيق هذا المبدأ في شركات المساهمة العامة.
أما أنواع وأشكال المسؤولية المجتمعية فهي متعددة منها ما هو خيري "Philanthropic" كالتبرعات للجمعيات والمشاريع الخيرية، وقد تكون مسؤولية بيئية "Environmental" من خلال ترشيد استهلاك الطاقة والحد من التلوث والمبادرات التي تنعكس إيجابًا على البيئة، ومسؤولية أخلاقية "Ethical" تتجلّى تجاه الموظفين من خلال الأجور العادلة والإدماج المجتمعي وتقليل الفجوة الجندرية، ومسؤولية اقتصادية بحيث تحقق المنظمة توازنًا ما بين الأهداف الربحية الآنية من جانب واستمرارية الشركة على المدى المتوسط والبعيد من جانب آخر وتأثير هذه القرارات على البيئة والمجتمع.
وبالنظر إلى مجموعة من التقارير السنوية لكبريات شركات المساهمة العامة الأردنية يتضح جليًا أن الشركات الوطنية على قدر مرتفع من المسؤولية المجتمعية، وتقوم بتوفير أو دعم العديد من مبادرات المسؤولية المجتمعية وفي كافة أشكالها من خلال تمكين ومساعدة المجتمعات المحلية، ودعم الشباب والريادة والمساهمة في تقليل البطالة، والجهود البيئية والخضراء، والتبرعات المالية للجمعيات الخيرية، والأعمال التطوعية، وتمكين الموظفين، وأحيانًا تقوم بعض الشركات بالمساهمة في إنشاء وإدامة البنى التحتية.
ويلاحظ أن العديد من جهود وبرامج المسؤولية المجتمعية يمكن تعزيز تكامليتها على مستوى بعض الشركات ذاتها أو بين بعضها، مع غياب وجود منصة متكاملة لتوجيه أولويات برامج المسؤولية المجتمعية والتبرعات والأعمال التطوعية نحو الأولويات الوطنية، ومن الناحية التشريعية فقد حددت تعليمات حوكمة الشركات المساهمة المدرجة لسنة 2017 بأن أحد مهام ومسؤوليات مجالس الإدارة هي وضع سياسة للمسؤولية الاجتماعية الخاصة بالشركة وبرامجها تجاه المجتمع المحلي والبيئة، حيث يمكن لهذا الإجراء أن يعزز من تحديد أولويات المسؤولية المجتمعية وتنظيمها بشكل أفضل.
أيضًا لا يمكن لمعظم المؤسسات العامة التبرع مباشرة بأموال أو مخصصات للمسؤولية المجتمعية، ويمكن دراسة إجراء بعض التعديلات التشريعية بحيث يسمح لبعضها التبرع بمبالغ ضمن سقوف محددة من أجل تحفيز ثقافة المسؤولية المجتمعية بين المؤسسات بأشكالها المختلفة.
اليوم ومع ضغوطات المديونية العامة على مخصصات الموازنة خصوصًا فيما يتعلق بالإنفاق التنموي والرأسمالي نستطيع التفكير جديًا في تشكيل مجلس أو صندوق وطني للمسؤولية المجتمعية، يشرف عليه ممثلون من القطاع الخاص والحكومة وممثلون عن المجتمع المدني ومجالس المحافظات، يقترح أولويات الإنفاق على مبادرات المسؤولية المجتمعية ضمن قائمة معلنة يتم تحديثها دوريًا، لتكون هذه الأولويات غير إجبارية إنما استرشادية لمختلف الجهات والمؤسسات المهتمة بتوجيه جزء من مخصصات مسؤوليتها المجتمعية نحو الأولويات الوطنية المعلنة.
وفي حال حدوثه سيؤثر إيجابًا على توفير المخصصات اللازمة سواء مادية أو خدماتية لتنفيذ المبادرات ذات الأولوية، فمثلًا إذا كان هناك حاجة لإنشاء جسر أو سد أو مدرسة أو مركز صحي يتسنّى لجهة معينة توفير الخدمات الاستشارية والتصاميم، ولجهة أخرى توفير المواد الأولية، وجهة ثالثة تتولى الإنشاء، وأخرى تقوم بالتجهيز، أو يمكن تجميع المخصصات المالية من مختلف الجهات المتبرعة إن أرادت ذلك لرصد الموارد المالية المطلوبة لطرح عطاء لتنفيذ المشروع كاملًا، مما سيعني تضافر الجهود المختلفة لتحقيق نتائج أفضل على أرض الواقع لبرامج ومشاريع ومبادرات المسؤولية المجتمعية.
ومن المهم أيضًا إيجاد آلية لمأسسة تكريم الجهات الرائدة في مجال المسؤولية المجتمعية لتشجيعها على الاستمرار في أعمالها، وحث مختلف المؤسسات على المبادرة أيضًا، إذ إن الظروف الحالية تستدعي من الجميع تنسيق الجهود فيما بينهم لتحقيق نتائج ميدانية أفضل تنعكس إيجابًا على المواطنين، وتساهم بشكل فعّال في تحقيق التنمية ومعالجة التحديات الرئيسة خصوصًا في المناطق الأكثر حاجة والأقل حظًا.