المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
د. محمد أبو حمور
06-11-2019 01:01 AM
يعاني الاردن حالياً العديد من المصاعب الاقتصادية لعل ابرزها تدني نسبة النمو الاقتصادي التي انخفضت مؤخراً الى نسبة قياسية تبلغ 8.1 ،%وهي نسبة تقل عن نسب النمو الطبيعي للسكان، وبالتالي فنحن نشهد تراجعاً في مستويات معيشة المواطنين وزيادة في نسب البطالة وتفشي الفقر وتصاعد العجز في الموازنة العامة وارتفاعاً مضطرداً وغير مسبوق في الدين العام، وفي ظل هذا الواقع الاستثنائي لا بد من البحث في مصادر النمو الاساسية والتفكير جدياً بتحفيزها وايلائها اهتماماً مستحقاً، ولهذا البحث جوانب متعددة ومداخل متنوعة فيمكن البدء بالقطاعات الواعدة اقتصاديا او الريادية أو التفكير بالصادرات وتحويلات العاملين او بالانفاق الراسمالي وتحفيز الاستثمار، وهذه كلها عناوين مهمة وتتطلب البحث والتحليل، ولكن في هذا المقام سنكتفي بعنوان يحمل في طياته مختلف الابعاد المنوه عنها، ونعني هنا قطاع المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة والتي تشكل الركن الاساس في اقتصاديات مختلف دول العالم المتقدمة منها والنامية حيث تمثل الشركات الصغيرة والمتوسطة حوالي 95 % من إجمالي الشركات في الغالبية العظمى من دول العالم، وهي تُسهم بحوالي 33% من الناتج المحلي الإجمالي للدول النامية وحوالي 64% في الدول المتقدمة، وتؤمن 45% من فرص العمل في الدول النامية وما يزيد على 60% في الدول المتقدمة،وهذا لا يشمل طبعاً القطاع غير الرسمي الذي يمكن ان يضيف كثيرا لهذه الاحصاءات، كما وتشير الاحصاءات الدولية الى ان هذه المشاريع تسهم بنحو 82% من الابتكارات في الدول النامية. وبالنسبة للأردن تشير مصادر صندوق النقد العربي الى المساهمة الفاعلة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلى الاجمالي والتي تبلغ حوالي 40 %وتسهم بما يتراوح بين 40-60 %من التشغيل في القطاع الرسمي، ويقدر عدد هذه المشاريع حسب احصاءات عام 2015 بحوالي 187 الف مؤسسة، 90 %منها تعتبر ضمن المؤسسات متناهية الصغر، وتتوزع على القطاعات الخدمية والصناعية المختلفة، وتبلغ مساهمة هذه المشاريع في قيمة الصادرات واجمالي الاستثمارات المنفذة حوالي 30%.
وهكذا فنحن عندما نتناول هذا القطاع لا بد ان ندرك ان مشاريعه هي المصدر الاول للنمو وتوليد فرص العمل وتعمل كمحرك داعم لمختلف النشاطات الاقتصادية وذلك عبر توفيرها مواد اولية للصناعات والانشطة الاقتصادية الاخرى وتوفيرها لفرص استثمارية برؤوس اموال متواضعة ومساهمتها في فتح نوافذ تسويقية ومحافظتها على بعض المهن التقليدية والحرف اليدوية، وهذه المشاريع تلعب ايضاً دوراً مهماً في تحفيز الشباب ومساعدتهم على بدء مشاريعهم الخاصة المولدة لفرص العمل، أضف لذلك تعزيز الروابط الاجتماعية في اطار الاعمال العائلية والاسر المنتجة، ولا شك بان كل هذه المزايا التي تتحقق بشكل او باُخر عبر هذا الصنف من المشاريع تنعكس ايجاباً على مجمل الاداء الاقتصادي وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين، كما ان هذا النمط من المشاريع يشكل قاعدة هامة لتوسيع القدرات الإنتاجية وزيادة الصادرات وتوليد فرص عمل في مختلف الاماكن الجغرافية وهي بذلك يمكن ان تصبح اداة لتوزيع ثمار التنمية في المحافظات وجيوب الفقر،كما وتعتبر المشاريع الصغيرة والمتوسطة أداة مهمة من أدوات نشر ثقافة العمل الحر والريادة، ووسيلة لتحسين مستوى المعيشة للمواطنين وخلق روح المبادرة والتشغيل الذاتي، وتضطلع هذه المشاريع بدور كبير في الحد من مشكلتي الفقر والبطالة وتحقيق الأمان الاقتصادي والاجتماعي لذلك ليس من المستغرب ان يحث جلالة الملك، خلال لقائه مجموعة من الشباب في شهر حزيران الماضي، الحكومة لتطوير برنامج تمويلي جديد ومتكامل، يقدم التمويل الميسر والدعم الفني والتدريب وفق معايير واضحة وشفافة، لتمكين الشباب من إقامة المشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة وتوفير فرص العمل ومصدر دخل لهم،مع التأكيد على ضرورة أن يستفيد الشباب والشابات في جميع محافظات المملكة من هذا البرنامج، وأن يتضمن البرنامج كذلك إرشاد الشباب والتشبيك مع الخبراء الفنيين والمنظومة الاقتصادية.
وفي ضوء هذه التوجيهات قامت الحكومة بتشكيل لجنة توجيهية للبدء بخطوات عمليّة للتنفيذ، وبحيث تعمل على وضع إطار ناظم يحدد أسس العلاقة التشاركية مع البنوك الراغبة بفتح نوافذ لهذا البرنامج التمويلي، والفئات المستهدفة، وعملية تأهيل المتقدمين للتمويل من حيث التدريب، وآلية التقدم للبنوك لطلب التمويل، ومعايير التأهل للحصول على القروض،اضافة الى إعداد وتنفيذ حملات توعية للتعريف ببرنامج التمويل، الذي سيأخذ طابع التشغيل الذاتي، لتشجيع الفئات المستهدفة من الشباب للاستفادة مما سيوفره البرنامج من فرص تدريب وتمويل تمكنهم من تنفيذ مشاريع منتجة ومستدامة.
كما قام المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتشكيل لجنة تكون مهمتها التنسيق ومتابعة قضايا المشاريع الصغيرة والمتوسطة على امتداد محافظات المملكة وذلك بهدف استكمال جهود تنمية قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتعزيز مساهمتها في الاقتصاد الوطني، الا انه وحتى الان من غير الواضح فيما اذا كان هناك اي مخرجات او اضافات محددة لهذه اللجان.
تختلف معايير تصنيف المؤسسات والمشاريع المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة بين البلدان المختلفة، وان كان اغلبها يعتمد على معايير محددة مثل عدد العمال وقيمة المبيعات وحجم راس المال، وفي الاردن يعتبر المشروع متناهي الصغر اذا كان عدد العاملين فيه لا يتجاوز خمسة عمال ومبيعاته لا تتجاوز 100 الف دينار، اما المشروع الذي يوظف من 5-20 عاملا ويتراوح حجم مبيعاته بين 100 الف ومليون دينار فيعتبر مشروعاً صغيراً، ويصنف المشروع متوسطاً في حال كان عدد العاملين يتراوح بين 21-100 عامل وحجم مبيعاته لا يتجاوز 3 ملايين دينار.
يعاني هذا القطاع من مجموعة من الصعاب التي تحول دون قيامه بالدور المتوخى منه وتختلف هذه المعيقات وفقاً لطبيعة المشروع والبيئة التي يعمل بها والقدرات التمويلية والادارية والفنية لاصحاب المشروع، ومن ابرز هذه الصعاب موضوع التمويل، فبالرغم من كل الجهود التي بذلت خلال السنوات السابقة الا ان عدم القدرة على الوصول للتمويل المناسب في مختلف مراحل حياة المشروع وارتفاع كلفته لا زال على راس معيقات هذا القطاع، ولكن ومن باب الانصاف لا بد من الاشارة الى الجهود الكبيرة التي يبذلها البنك المركزي الأردني والمؤسسات الأخرى في هذا المجال بدءاً من انشاء صندوق لضمان القروض واخر لائتمان الصادرات مرورا باستراتيجية الاشتمال المالي اضافة لجهود مؤسسات الاقراض الصغير ومتناهي الصغر، وقد بلغ مجموع التمويل المقدم لهذا القطاع في عام 2017 حوالي 6.2 مليار دينار، كان نصيب المصارف منها حوالي 1.2 مليار دينار، وتوزع باقي المبلغ على الشركات والمؤسسات العاملة في تمويل هذا القطاع بما في ذلك الجهات الدولية،وقد بلغت نسبة التمويل الممنوح لقطاع المشاريع الميكروية والصغيرة والمتوسطة في عام 2018 حوالي 2.9 %من اجمالي الائتمان الممنوح، ويبلغ عدد المؤسسات التي تقدم تمويلاً لهذا القطاع حوالي 66 مؤسسة بما فيها المؤسسات المصرفية البالغة 25 مؤسسة، والمؤسسات الاخرى مثل شركات التمويل الاصغر والشركات المتخصصة في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وغيرها.
وفي ذات المجال لا بد من الاشارة الى اقرار قانون الاعسار وقانون وضع الاموال المنقولة تامينا للدين مما كان له اثر ايجابي في تحسين البيئة الاستثمارية بشكل عام،ولا شك بان هناك جهداً مطلوباً من اصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة لوضع قوائم مالية دقيقة يمكن الاعتماد عليها لمنح الائتمان، مع قيام مؤسسات التمويل بتسهيل الاجراءات وسرعة منح التمويل بما في ذلك دعم راس المال العامل وتخفيض نسبة الفائدة لهذه المشاريع، كما يمكن ان تقوم مؤسسات التمويل الاسلامية بدور هام في النهوض بهذا القطاع وتوفير المصادر المالية اللازمة، واستكمالاً لموضوع التمويل لا بد من التعريج على موضوع أرق المجتمع الاردني وولد لديه شكوكاً وشبهات حول المؤسسات التي تقدم التمويل الصغير ومتناهي الصغر والمقصود هنا موضوع الغارمات الذي اثار الكثير من اللغط وبسببه تم اتهام بعض الشركات والصناديق الاقراضية ان كل ما كان يهمها هو الربح من خلال نسب الفوائد المرتفعة، مع عدم مراعاة قدرة المقترض على السداد وعدم الالتفات الى الغايات التي سيتم استخدام القرض فيها، وقد احسنت الحكومة باخضاع نشاط هذه الشركات والصناديق لرقابة البنك المركزي تجنباً لمزيد من الازمات الاجتماعية ولضمان مراعاة الاهداف النبيلة التي قصدها المشرع من السماح بهذا النمط من التمويل، ليكون رافعة تنموية للاقتصاد وليساهم في تحسين حياة المواطنين عبر تمكينهم من تمويل مشاريع انتاجية.
ويعاني هذا القطاع ايضاً من تعدد التشريعات التنظيمية والقانونية التي يخضع لها وعدم وجود اطار موحد يجمعها، فبدءاً من قانون الشركات مروراً بانظمة المهن والبلديات والمؤسسات الرقابية والتمويلية المختلفة، كل ذلك يضع عوائق متعددة امام هذه المشاريع وسعيها للتطور والنمو ويؤدي بجزء كبير منها للعمل في اقتصاد الظل، لذلك من الضروري ان يتم تطوير البنية الاساسية لهذا القطاع وتبسيط الاجراءات وتسهيل انشاء وتسجيل هذه المشاريع وفق آليات خاصة بها، بما في ذلك الاعمال التي يتم ممارستها في المنزل،كما قد يكون من المناسب التفكير باطار تشريعي موحد يتضمن نخفيض الرسوم او الغاءها مع منح تسهيلات ضريبية لفترات معينة ليمكن لهذه المشاريع ان تقف على قدميها خاصة في مرحلة التشغيل الاولي، ومن الطبيعي ان لا تكون القدرة التنافسية لهذه المشاريع في المستوى المطلوب عند بداياتها، كما ان قدرتها على النفاذ للاسواق تكون محدودة، اضف لذلك فكثير من اصحاب هذه المشاريع قد لا تكون لديهم الخبرات والمهارات المعرفية لادارة المشروع في مراحله المختلفة، وهذا يطرح ضرورة توفر عمل مؤسسي او جهة رسمية تساعد في توفير التدريب والدعم الفني والاداري لتكمل عمل بعض المؤسسات التي تبذل جهوداً في هذا الجانب، ولا بد ان يتم ارشاد أصحاب المشاريع لكيفية رفع التنافسية وضرورة الاهتمام بالجودة والحفاظ على البيئة، فهذا يشكل قاعدة للانطلاق نحو التصدير والولوج للاسواق العالمية، كما انه لا بد من التنويه لضرورة توفر رؤيا تكاملية لهذه المشاريع تحسن بيئة الاعمال المرتبطة بها وتخفض الكلف التاسيسية والتشغيلية لها وتؤهلها لتكون جزءً من السلسلة الانتاجية مما يؤدي الى وضعها في اطار تنموي داعم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبحيث تتكامل مع بقية القطاعات والمكونات الاقتصادية، وهذا الامر بحد ذاته يشكل مدخلاً لضمان استمرارية هذه المشاريع وتطورها وزيادة قدرتها التنافسية.
وهناك ايضاً عدد من المشاكل الاخرى التي تواجه قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة والتي تنبع اساساً من الثقافة المجتمعية، فالمجتمعات الريعية التي تعودت الاعتماد على الدولة لتوفير الوظائف وسبل العيش لمواطنيها تفتقر في الغالب لثقافة الانتاج وتعاني من عدم نضج المبادرات الفردية وكثيراً ما يتم تقليد مشاريع ناجحة ما يعني تكرار بعض التجارب والافتقار لروح المبادرة والابتكار ويقلص القدرة على المنافسة، ولعل هذا يعيدنا لضرورة بث مفاهيم اساسية عبر التوعية الاعلامية والتدريب المتخصص بما في ذلك مواضيع التسويق والادارة الحديثة ومفاهيم العولمة وكيفية استغلال التكنولوجيا الحديثة لغايات التطوير والتأقلم مع المتغيرات.
يشكل النهوض بقطاع المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، التي تشكل معظم المؤسسات الصناعية والخدمية، وتذليل العقبات والصعوبات التي تواجهها محوراً رئيساً ومحفزاً اساسياً للنمو وصولاً لتوليد فرص العمل وزيادة الانتاج وتنشيط الاسواق، خاصة وان الطاقات والامكانيات الكامنة في هذا القطاع كبيرة ومتنوعة، لذلك فان العمل في هذا المجال لا بد ان يستند اولاً الى تعزيز الثقة مع المؤسسات ذات العلاقة وبناء علاقات تشاركية وتعاونية تخلو من الاشتراطات والاملاءات ليس فقط خدمة للمشاريع العاملة في الاطار الرسمي وانما ايضاً لتشجيع تلك التي تعمل في الظل لتكتسب الصفة الرسمية وتسفيد من المزايا والحوافز التي تتوفر او سيتم توفيرها لهذا القطاع، وبهذا نستطيع تعظيم الآثار الايجابية لهذه المشاريع وضمان استمراريتها وتطورها،فالنجاح في اتاحة المجال لازدهار هذا النمط من المشاريع عبر حزمة من السياسات التنموية التحفيزية المستندة الى منهجية مؤسسية تشاركية هو خطوة هامة لنمو اقتصادي مستدام .
(الرأي)