هي "التشارين" في بلادنا كما هي مواسم للخير المبكّر هي أيضا موسم للرحيل ، يغيب اليوم ويرحل أحد وجوه العالوك الطيبة ، هو هايل عليان الشديفات ، سائق الباص الذي عرفناه منذ إن كنّا أطفالا عندما نركب معه من الزرقاء إلى المسرّات والعالوك .
ربما كان من الأوائل "أبو الرائد " الذين إمتهنوا مهنة السواقة عندما إقتنى " اللاندروفر" وكان يتنقل بها من المدينة إلى القرية، عندما كانت وسيلة النقل الوحيدة في القرى المنسية وفي طرق وعرة وصعبة .. ما يميز هايل العليان كما كانوا ينادونه هنا ، أنه يعرف ركابه راكبا راكبا ، وربما وقف بعد صلاة الفجر وهو يشيل حمله ، وقف على كل باب دار يطلق زامور باصه ليوقظ الراكب وربما كان عسكريا يستعد للعودة إلى معسكره ، أو عاملا أو موظفا ذاهب إلى دوامه .. أو ينتظر كبير سن ليصعد ببطئ أعياه الوجع ليراجع مستشفى "التضميد".
هايل العليان يتصف مثل كل أبناء قرانا الطيبة ، بالصبر وبطولة البال ، فالجميع يرسل طلباتهم معه وهو ذاهب في الصباح ليحضر حاجاتهم معه عند المساء ، هذا يريد خبز "السوق " وهناك من يوصيه بشراء باكيت سجائر وهناك من يرسل بطارية التلفزيون ليشحنها أو يتوقف ليشتري أحدهم من محل خضار "أبوغوش" ... لا يتذمر وهو يطوف القرى ويمر على البيوت ويعرفهم واحداً واحداً .. ويعرف أن باصه كان كالعائلة ، يصعد الناس فيحترم كبيرهم وصغيرهم ويخجل من النساء وطالبات المدارس حتى لو نفر بالشباب ليجلسهن مكانهم .. لا يمّل من طلباتهم طول الطريق ، وربما أطلق صوته يغني و"يهيجن" بدلا من الراديو.
هايل يغادر اليوم ولا يأبه بتغيير الحكومات ولا بتعديلها ، فمثله مثل الكثيرين لا يعرف من الحكومات وخدماتها إلا الفواتير والضرائب ، ولا يهتم إلا لموسم المطر عندما يتأخر ، وهو يتفقد مروج القمح وشجر الزيتون كل صباح وكل مساء.
رحم الله هذه الوجوه الطيبة ، فيها من عروق الأرض ومن رائحة الشجر ومن طيب الأصل وبنّها وهيلها ، فمثل "أبوالرائد" هناك الكثيرون مملؤون بالطيب والخير والبساطة ، وأنجبوا جيلا يحب الأرض والوطن والناس وما بدلوا تبديلا.