في هذا الموسم اللطيف من العام كانت تتجمع قلوبنا تحت شجرة واحدة ، وأيادينا تحت غصن واحد ، وجباهنا تحت شمس واحدة ، وأجسامنا ينهكها تعب واحد .
موسم كنا ننتظر فيه بشغف عدد (تنكات) الزيت التي سينتجها زيتون هذا العام ، وكم نصيب الفرد منا ، وهل شجرنا حمل هذه السنة أم لم يحمل ، وهل سننهي القطاف قبل ( دار عمنا ) ونذهب لمساعدتهم أم هم سيسبقوننا ويساعدوننا .
في كل عام من أعوام قطاف الزيتون كان يأخذني والدي وأخوتي منذ نعومة أظفارنا كي نعمل ونقطف الزيتون ونحمل (الشولات) ونفرد ( الحصاير).. الخ من الاعمال المتعلقة في قطاف الزيتون ، فكنت في الماضي أغضب من أبي غضبا شديدا أنْ ليس لي علاقة في هذا العمل وكان يجب عليه أنْ لا يأخذني خصوصاً لأنني صغير .
كنت أستغرب من إصرار والدي أن نشارك في قطاف الزيتون ، فكان يأخذنا بعد العودة من المدرسة ويشاركنا الحديث ونحن نعمل ( نقطف ) عن أيام طفولته ودراسته وتعبه وشقاءه وعمله بالرعي والحصاد وغيره ، فكنا نعمل ونتعب .. ونستمتع بقصص والدي التي كنت أتخيلُها وكأنها أمامي من جمال أسلوبه حين كان يسردُها ، لكن ورغم كل التعب كنت أسعد جدا بأكلِ بقايا عُلب الحمص والفول مع خبز الطابون .
وفي أحد الأيام رفضت رفضا باتاً العمل وطلبت من والدي ارجاعي الى البيت فرفض وأصر أن نعود جميعا مع حلولِ المغرب ، فتعنتُ وذهبتُ باتجاه باب المزرعة قاصدا طريق العودة ولم التفت لنداء أي احد ، ولم البث ان اختطفتُ نظرةً الى الوراء لأرى (مكوكا فضائيا) يتجهُ نحوي بسرعة ! فلما صدمني دارت الدنيا أمام عيني ولم أستفق الا على صوت تمزيق الغِيار الداخلي ( الشلحة ) خاصتي ، فربطها والدي على رأسي مكان الجرح إثر القذيفة ( الحجر الصغير ) الذي رماهُ والدي تجاهي بشكل احترافي .. أبهرني لاحقا ، وأمرني ان اعود لقطاف الزيتون مع إخوتي والعمال .
ومن يومها وأنا اسأل أبي عن موعد قطاف الزيتون لكي أذهب معه للمزرعة وأشارك في العمل ..
ولكن مع مرور الايام والتقدم في العمر وتزايد المسؤوليات ، تقلصت إهتماماتي بقطاف الزيتون ، فإما ان أذهب زائرا أو أن أعاون في نصف يوم ومن ثم اذهب لانشغالاتي في الحياة .
ولكن .. مازالت رائحةُ الزيتون في أنفي وعبقُ التراب يختلط مع عِطري و ( الحجر الصغير ) ندبتهُ تُذكِّرُني ، وأبي يترك كلَ إنشغالاتهِ وهو دكتور جامعي وناشط إجتماعي ويلحق بموسم قِطاف الزيتون .