على الرغم من أن هذا العنوان غير شعبي إطلاقاً، لكن مضمونه يشير إلى إحدى خلاصات جدل الديمقراطيات والتحول السياسي في المنطقة العربية، في ضوء حركة الحراكات الشعبية التي تتدفق من عاصمة الى الاخرى، وهي خلاصة يحملها تيار ثالث يهمس ويناقش على خجل في معظم معاركه، ويقف حائرا بين تيار قوى السلطة التقليدية التي تحاول التقليل قدر ما أمكنها من هجوم موجة الحراك الشعبي التي أصابت المنطقة بأنفلونزا التغيير وتقف على هذا الجانب، وتيارات الديمقراطية التقليدية والجديدة التي تقف على الجانب الآخر.
خلاصة مقولة التيار الثالث أن التحول الديمقراطي في العالم العربي لا يبشر بأي حال بخير، وأن ثمة إعاقة حقيقية – على وصفهم- للتحولات السياسية السلمية والناعمة بطلها هذه المرة ليس السلطة التقليدية ولا التدخلات الخارجية بل البنية الاجتماعية والثقافة المحلية.
الأمر لا يجب أن يؤخذ على محمل بعض أشكال الدعاية الغربية التي سادت لعقود وتحدثت عن مجتمعات غير ناضجة للممارسة الديمقراطية والمشاركة السياسية، فهذه الأطروحة مرفوضة من الأساس لأنها تتعامل مع الممارسة السياسية للمجتمعات على أسس ثقافية وعرقية، بل إذا ما أخذنا بالحد الأدنى من التعاطي مع مقولة إعاقة المجتمعات للديمقراطية، يجب أن نذهب فورا إلى الدائرة المغلقة التي تدور في فلك دور العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في ضمان تغيير اجتماعي وثقافي يخدم المشاركة السياسية جنبا الى جنب لدور العلاقات الدولية الظالمة.
المسألة أن الحالة الاجتماعية الثقافية الجديدة على قدر ما هي صادمة فهي صعبة الفهم ولا توجد إلى اليوم نظرية تفسيرية تصلح لقراءة المشهد، لذا نجد من السهولة محاولة ادخالها أي قالب، ونظرا لحالة السيولة الواسعة التي يعاني منها الشارع العربي الجديد فإن هذا الشارع بحد ذاته قابل للتوظيف وقابل للاختطاف احيانا وقابل للمزيد من التمرد على السائد والاستبسال من أجل التغيير.
هذه الحالة من التناقضات تمنحنا رؤية كيف باتت المجتمعات تعيد تفكيرها ونظرتها للعدالة الاجتماعية، وكيف أن فئات واسعة تعود في نهاية النهار للاحتماء بمرجعياتها وولاءاتها التقليدية، وعلى قدر ما تحطم هذه الحالة قيود الخوف التقليدية وتعيد بناء معمار المواجهة في وجدان الناس على قدر ان الفشل في حركة الجماهير والشعوب في السنوات العشر الأخيرة بات يورث حالة من الريبة والخوف الجديد والشعور التاريخي باللاجدوى، وعلى قدر ما أثارت الشعوب العربية من انفعالات حادة خلال العقود الثلاثة الأخيرة حيال الآخر الذي صنفها تحت مسميات عدة أبرزها الإرهاب، فإن الشعوب ذاتها تثير انفعالات مشابهة وإن كانت بأدوات أخرى حيال علاقاتها بالداخل.
في المقابل نكتشف كل يوم مدى عمق الفقر الاجتماعي والثقافي للدولة الوطنية ؛ فلأول مرة تندمج القواعد الاجتماعية في النقاشات المحتدمة حول القيم الكبرى بفضل تكنولوجيا الاتصال والإعلام المعاصرة، ولأول مرة نكتشف حجم فقر فكرة الدولة وفكرة العقد الاجتماعي لدى شعوبها ؛ فلا يوجد تأصيل اجتماعي وثقافي لفكرة الدولة يحملهما فماذا تحمل القواعد الاجتماعية التي تسبح على صفحات الشبكات الاتصالية سوى ترديد أفكار أسيرة بالماضي وبصورة في أغلب الأحيان غير صادقة وغير تاريخية عن ماضيها.
وفي معظم هذه الدول يتردد تذمر الحكومات من ضعف البرلمانات وتدني مستوى أدائها، وهي ظاهرة عكس التصور السابق الذي كان يعزو ضعف البرلمانات لهيمنة السلطة التنفيذية عليها، حيث أصبحت الحكومات في بعض الأحيان لا تتردد في إلقاء اللوم على البرلمانات وتحميلها مسؤولية ليس إعاقة الديمقراطية والتحول السياسي، بل ضعف مقاومة الفساد وغياب المساءلة في الأداء العام.
الفكرة المهمة أن النقد الذاتي كلما انتقل إلى العمق أكثر، كلما دل ذلك على حالة صحية تدل على رغبة حقيقية في البحث عن العافية، بعد ذلك لا توجد مشكلة في تحديد الأولويات سواء المجال السياسي المهيمن أم المجال الاجتماعي والثقافي الراكد، المهم أن نجرؤ على طرح الأسئلة حتى وان كانت في البداية مربكة وعلى شكل تهمة.